فهمي هويدي
المعادلة صارت مقلوبة، فمصر التى كشرت عن أنيابها فى مواجهة الغضب الفلسطينى عند معبر رفح، اعتمدت الدبلوماسية الهادئة فى التعامل مع النهم الإسرائيلى فى القدس.
(1)
الخبر ليس جديدا. وربما كان الجديد فقط هو التزامن بين اللقطتين فى لحظة تاريخية واحدة، الأمر الذى يسلط الضوء على بؤس المفارقة. ذلك أن معركة السلطة المصرية ضد قطاع غزة وحماس خلال الأشهر الثمانية الأخيرة احتلت موقعا متميزا فى أجندة السلطة وفى المنابر الإعلامية المعبرة عنها. وفى حين ظل التصعيد والتهديد سمت العلاقة مع القطاع. فإن السكون والتعاون الإيجابى الحذر ظل من أبرز سمات العلاقات المصرية الإسرائيلية. صحيح أن ذلك السكون بل والتعاون الحذر ظل مخيما طول الفترة التى كان فيها الدكتور محمد مرسى على رأس السلطة، إلا أنه كان متسما بسوء الظن المتبادل. فضلا عن أن العلاقات مع حماس والقطاع كانت على النقيض تماما مما هى عليه الآن. وهو الوضع الذى انقلب فى الوقت الراهن، فصار سوء الظن من جانب حماس، وتعالت مؤشرات المودة والثقة مع إسرائيل. على الأقل فذلك ما شهد به السفير الإسرائيلى الأسبق فى مصر تسفى مزال فى ورقة صدرت (فى 15/1/2014) عن مركز يروشليم لدراسة المجتمع والدولة. وقد نشرت صحيفة جيروساليم بوست ملخصا لها بالإنجليزية. وقد هاجم الرجل فيها بشدة الدول ووسائل الإعلام الغربى التى اعتبرت الوضع الجديد فى مصر انقلابا، فى حين دعا الدول الغربية إلى ضرورة تقديم كل صور العون للسلطة القائمة، معتبرا انها الوحيدة التى تشن حربا لا هوادة فيها على التطرف الإسلامى.
الشكوك العميقة التى ساورت الإسرائيليين من توجهات النظام السابق عبرت عنها دراسة أعدها البرفيسور ليعاد بورات وصدرت فى 19/8/2013 عن مركز بيجين السادات للدراسات الاستراتيجية التابع لجامعة «بارايلان»، وقد ذكر فيها أن نظام الدكتور مرسى اتبع تكتيكات تعد الأرضية لاتخاذ قرار التخلص من اتفاقية كامب ديفيد. فمن ناحية ــ والكلام له ــ راعى موقف المجتمع الدولى من خلال تأكيده على احترام الاتفاقات الدولية التى وقعتها مصر. ومن ناحية ثانية فإنه سمح لمستشاريه بتقديم كل المسوغات التى تبرر التنصل من الاتفاقية المذكورة بعد اتهام إسرائيل بعدم الوفاء ببنودها.
فى التعبير عن الثقة ذكر النائب السابق لرئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلى، الجنرال موشيه كبلينسكى فى حوار بثته القناة العاشرة يوم 14/2 فى برنامج «الأسبوع» أن الجيش المصرى حليف مهم لإسرائىل ومن مصلحتها الاستراتيجية ان يتم تعزيز قدرته على استعادة الاستقرار والهدوء فى البلاد.
(2)
فى الأسبوع الماضى دعا بعض الناشطين فى قطاع غزة إلى اعتصام أمام معبر رفح. مطالبين بفتحه لقضاء حوائج الناس ومصالحهم بعدما اشتدت معاناتهم جراء الاستمرار فى إغلاقه بمتوسط ثلاثة أسابيع كل شهر. وحين تم تبليغ الرسالة إلى السلطات المصرية وجرى فض الاعتصام يوم الجمعة الماضى (28/2) كان قد مضى على إغلاق المعبر 25 يوما متصلة، فى حين وصل عدد الراغبين فى السفر ستة آلاف شخص. بين مرضى بحاجة إلى العلاج ودارسين يريدون الالتحاق بمعاهدهم وموظفين وعمال لهم ارتباطاتهم. وبعدما أصبحت القاعدة ان يفتح المعبر ليوم واحد بعد فترة الإغلاق، فإن عدد الذين يسمح لهم بالمرور منه يتراوح فى العادة بين 500 و600 شخص فقط، الأمر الذى يعنى أن الراغب فى الخروج أو الدخول عليه أن ينتظر عدة أشهر لكى يحل عليه الدور وينفرج كربه. الأمر الذى حول القطاع إلى سجن كبير، لا يعرف نزلاؤه لماذا ينكل بهم. ويقاوم كثيرون فكرة أنهم يعاقبون لأنهم يمثلون رمز مقاومة الاحتلال والصمود فى مواجهة العدوان الإسرائيلى.
حاولت تحرير المشهد فقيل لى ما يلى:
•إن أهل القطاع تعرضوا لهذا النوع من التنكيل فى عامى 2006 و2007 (أيام حكم مبارك) حين تولت حركة حماس السلطة فى القطاع بعد فوزها بالأغلبية فى الانتخابات التشريعية. لكن معاناة الناس خفت بصورة تدريجية بعد ذلك. إلا أن الأمر اختلف بعد تولى الدكتور محمد مرسى للسلطة، حيث أصبح المعبر يفتح يوما ويغلق يوما. وهو وضع لم يستمر بعد 30 يونيو 2013، وإنما عادت الأمور إلى ما كانت عليه حين كانت الأزمة فى ذروتها فى عهد مبارك.
•من المفارقات أنه فى حين أصبح الإغلاق هو الأصل بعد 30 يونيو، فإن معبر بيت حانون الذى يطلق عليه الإسرائيليون اسم معبر ارينز، لم يغلق مع القطاع حتى فى أوقات الاجتياحات والاعتداءات الإسرائيلية التى تعرض لها أهل غزة.
•يعتبر المسئولون عن سلطة القطاع أنه لا أساس للاتهامات التى وجهت إلى حماس بالضلوع فى أعمال ضارة بالأمن المصرى. ويدللون على ذلك بأنه لم تثبت فى أى تحقيق نزيه تلك التهمة بحق أى عضو فى الحركة. رغم سيل التقارير والادعاءات الإعلامية التى لم تكف عن شيطنة حماس طول الوقت. ومما ذكره أحد أولئك المسئولين أنه من غير المعقول أن توافق حماس على التهدئة مع إسرائىل فى حين تعمد إلى المساس بأمن مصر بأية صورة.
•تقبل قيادات حماس تحقيق الاتهامات التى نسبت إليها بشهادة رجال المخابرات العامة المصريين الذين تعاملوا مع ملف القطاع من البداية. وكانوا الطرف الأساسى فى جميع الاتصالات التى أجريت مع السلطات المصرية، علما بأن هؤلاء لم يغيبوا عن أى لقاء تم بين الدكتور محمد مرسى وبين قيادات الحركة. كما أنهم يقبلون بنتائج أى تحقيق تجريه أية جهة مستقلة سواء كانت حقوقية مصرية أو تابعة للجامعة العربية.
•فى الوقت الراهن تقبل حركة حماس بفكرة منع أعضائها من اجتياز المعبر، وترى أنه ليس هناك ما يبرر معاقبة المرضى وأصحاب المصالح والحوائج من أبناء القطاع، بمنعهم من قضاء مصالحهم خصوصا تلك التى تهدد حياتهم ومصائرهم.
ماذا كان الرد المصرى على رسالة الاعتصام الذى استمر خمسة أيام؟ ــ الصحف المصرية لخصت الرد فى الحديث عن الاستنفار الأمنى ورفع درجة الاستعداد القصوى، تحسبا لاحتمال اقتحام المعتصمين للمعبر. فى هذا الصدد نقلت جريدة «الشروق» (عدد 1/3/2014) عن مصدر عسكرى قوله إن المشير عبدالفتاح السيسى أصدر توجيهاته لقيادة الجيش الثانى الميدانى باتخاذ جميع الإجراءات والاستعدادات بمنطقة رفح والتصدى لمن يحاول اقتحام المعبر بكل قوة وحسم. وأضاف المصدر أن جهات سيادية أبلغت قيادات بحركة حماس رسائل تحذيرية شديدة اللهجة بأن من يحاول اقتحام المعبر سيتم التعامل معه بالقوة والحسم، وستحمل حماس بالمسئولية عن ذلك.
(3)
فى حين كانت مصر ترفع درجة الاستعداد القصوى لمواجهة المعتصمين أمام معبر رفح، كان «الكنيست» يناقش مشروع قانون يدعو إلى بسط السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى. إذ يقضى بإلحاق تبعيته لوزارة الأديان فى إسرائيل، بدلا من دائرة الأوقاف الإسلامية بالأردن. (الاعتصام بدأ يوم الأحد 23/2 والمناقشة جرت فى الكنيست فى اليوم التالى مباشرة ــ الاثنين 24/2 ــ، وينص المشروع على «السماح لليهود بدخول المسجد الأقصى من أى باب وفى أى وقت للصلاة فيه»، الأمر الذى يعنى فتح الباب على مصراعيه أمام تقسيم مواعيد الصلاة فى المسجد بين المسلمين واليهود.
زميلنا الدكتور صالح النعامى تابع المناقشة فى الكنيست وقال فى رسالة تلقيتها منه ان النائبة الليكودية الجنرال ميرى ريغف التى كانت فى السابق ناطقة بلسان الجيش الإسرائيلى وصفت خلال دفاعها عن المشروع المسلمين الذين يصلون فى المسجد الأقصى بأنهم «حيوانات محمد»، وقالت إننا فى إسرائىل ندافع عن حقوق الحيوانات، ولكننا لا نحافظ على حقوق اليهود فى جيل الهيكل (الوصف العبرى للمسجد الأقصى)، مضيفة أنه يجب أن يتردد نداء «سمعا إسرائيل» (صلاة مهمة لليهود، وألا نسمح بأن يتم ترديد عبارة «لا إله إلا الله» فيه، وفى تأييد المشروع قال النائب الليكودى موشيه فايغلين أنه «بدون سيطرتنا على هذا المكان فلن يكون لنا وطن»، مدعيا أن حق اليهود فى الصلاة بالمسجد الأقصى مشتق من حقيقة أن إسرائيل «دولة يهودية». من ناحيتها قالت النائبة شولى موعالم من حزب «البيت اليهودى» ان اليهود يجب أن يدخلوا المسجد الأقصى باعتبارهم أصحاب حق، وليس كلصوص يتسللون تحت حراسة الشرطة. وأضافت: «لن ننتظر حتى نحصل من الأردن على إذن قبل الحج لجبل الهيكل. وسنصلى فيه تحقيقا لسيادتنا على المكان».
على صعيد آخر تحدثت صحيفة «معاريف» عن أن ملك الأردن ورئيس السلطة الفلسطينية حثا بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء على التدخل لعدم السماح بتغيير الوضع القانونى للمسجد الأقصى، إلا أن المصادر الإسرائيلية ذكرت أنه فى حال صدور القانون فإن نتنياهو قد يماطل فى تطبيقه، باعتباره مدركا للتداعيات الكارثية المترتبة عليه، ولم تستبعد تلك المصادر أن يلجأ رئيس الوزراء إلى ذلك بحجة أن الأمر قد يفضى إلى المساس بالأمن القومى الإسرائيلى. ونقلت إذاعة الجيش الإسرائيلى عن المصادر المختصة قولها ان المشروع سيكون ملزما للحكومة إذا أيدته الأغلبية، وفى هذه الحالة فإنه سيمثل نقطة فارقة فى تعامل الحكومات الإسرائيلية القادمة مع الملف.
(4)
الصدى فى الأردن كان سريعا. فبعد يومين من تقديم المشروع إلى الكنيست، قرر مجلس النواب طرد السفير الإسرائيلى من عمان، واستدعاء السفير الأردنى من تل أبيب. كما دعا الحكومة إلى تقديم مشروع قانون لإلغاء اتفاقية وادى عربة (معاهدة السلام) التى وقعت بين البلدين فى عام 1994. وهى من القرارات التى يتعين أن تحظى بموافقة الملك والحكومة لتنفيذها.
فى مصر استنكر المشروع شيخ الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية فى البداية. ثم أدانه رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، الذى طالب الدول العربية والإسلامية وإصرار العالم باتخاذ موقف حاسم إزاء التعديات السافرة على المقدمات الإسلامية. وأدلى وزير الخارجية نبيل إسماعيل فهمى بتصريح مماثل. لكننا لم نشهد إجراء من جانب مصر أو حتى تلويحا بإجراء تفوح منه رائحة الغضب. حتى الإدانة اللغوية لم تستخدم العبارات الخشنة التى خرجت من القاهرة ردا على أهالى غزة الذين اعتصموا أمام معبر رفح. وكان حزب «الدستور» هو الوحيد الذى أصدر بيانا قويا أدان المشروع الإسرائيلى، إلا أنه لم يذهب إلى أبعد من مطالبة الحكومة بالتشاور مع الآخرين فى الرد المناسب. رغم أن لدى مصر أوراقا عدة تستطيع أن تعبر بها عن غضبها، أخفها استدعاء السفير الإسرائيلى وإبلاغه بالاحتجاج واستدعاء السفير المصرى «للتشاور»، وتقليص اتفاقات التعاون بين الجانبين. ولا ينسى فى هذا الصدد أن القاهرة سحبت سفيرها من أنقرة وطردت السفير التركى بسبب الخلاف مع نظامها الجديد. أما الأصوات المصرية الأخرى التى تبشرنا باستعادة كبرياء وغيرة الستينيات فقد تجاهلت الموضوع ولم يسمع لها صوت فيما أعلم.
إن المسجد الأقصى فضلا عن موقعه المتميز بين مقدسات المسلمين باعتباره أولى القبلتين، يعد رمزا لقضية وثيقة الصلة بالأمن المصرى والقومى العربى، فضلا عن كونها مصيرية بالنسبة للشعب الفلسطينى. وفى زمن الكبرياء، حين كانت القضية لها مركزيتها فى الوجدان العربى ثارت الأمة ومعها العالم الإسلامى حين أقدم صهيونى متعصب فى عام 1969 على محاولة إحراق جناحه الشرقى الأمر الذى أدى إلى احتراق منبر صلاح الدين. ولأجل ذلك عقد أول اجتماع لزعماء العالم الإسلامى فى الرباط، وقرروا إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامى (التعاون الإسلامى الآن). ولكن حين تأهبت إسرائيل للسيطرة على المسجد كله وجدنا ذلك التراخى من جانب مصر وغيرها من الدول العربية المركزية، التى بدا واضحا فى مواقفها تراجع أهمية القضية والأقصى معها، بما يعنى تراجع النخوة والغيرة حتى عن أمن الأمة ومستقبلها.