فهمي هويدي
ما من مسئول يتحدث فى مصر الآن إلا ويضع عنوان استعادة الأمن على رأس أولويات خطابه. وهو ما فعله رئيس الوزراء الجديد المهندس إبراهيم محلب فى أول حديث وجهه إلى المصريين (الأحد 2/3). وذلك تقدير صحيح لا ريب، لا يستطيع أحد أن يزايد عليه أو يختلف معه. إلا أننى حين وجدت أن رئيس الوزراء احتفظ بوزير الداخلية الحالى فى منصبه، رغم ان اسمه يرتبط فى الأذهان بأكبر عمليات قتل واعتقال وتعذيب بعد الثورة، أدركت ان مفهوم استعادة الأمن بات يحتاج إلى تحرير وضبط. إذ بدا أن المراد به تشديد القبضة الأمنية والاستمرار فى النهج القائم الذى ينتهى بالاحكام المتعسفة. الأمر الذى يعنى ان فكرة استتباب الأمن باتت مرتبطة فى الرؤية السياسية الراهنة باستمرار القمع. وهو ما دعانى بعد تشكيل الوزارة إلى القول بأنها لا تعنى أى تغيير فى السياسات على الأقل فى المسألة الأمنية، التى لم تتغير فيها حتى الوجوه.
فكرة تعليق استتباب الأمن على استمرار القمع مغلوطة وخطرة. هى مغلوطة لأنها تنبنى على اجتماع ضدين ونقيضين. ذلك ان القمع يولِّد المرارة والخوف. ثم إنها خطرة لأنها تشيع الكراهية وتزرع بذور الثأر التى لا تنبت إلا عنفا. إذ العنف يستدعى مزيدا من العنف، والقمع يعلم الناس دروسا فى القمع. لذلك قيل إن كل حكومة تشكِّل المعارضة التى تستحقها. فإذا اتبعت سياسة التسامح واللين واحترام القانون، فإن أداءها يدفع الناس إلى اتباع النهج ذاته من حيث إنها فى هذه الحالة سوف تستخرج من الناس أفضل ما فيهم. وإذا اتبعت سياسة البطش والقهر والظلم، فإنها لن تستخرج من الناس سوى اسوأ ما فيهم. ذلك أنها حين تحكم فإنها تؤدى دورا آخر غير منظور يتمثل فى أن أداءها وتحيزاتها تربى الناس وتؤثر فى قيمهم وأخلاقهم. وهو ما اختزلته عبارة الإمام على بن أبى طالب التى قال فيها الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم. فى التمثل والتلقى والتقليد.
هذه الفكرة صاغها الفيلسوف الفرنسى هلفيتيوس فى القرن الثامن عشر حين قال: ان التفاعل بين المجتمع والسلطة ذو اتجاه واحد. فالشعب لا يؤثر فى طبيعة السلطة، وانما تؤثر السلطة فى خصائص الشعب وأخلاقه. وذهب فى ذلك إلى القول بأن السلطة مسئولة عن مساوئ الشعب، كما انها مسئولة عن محاسنه. فالسلطة التى تقدم على الابتزاز ويتمتع اقطابها بامتيازات استثنائية لابد وان تخلف جهازا مرتشيا، والسلطة التى تتعامل مع الشعب بطريقة فاشية، فإن جهازها لابد وأن يكون فاشيا. وتلك التى تنتهك القانون وتتلاعب به، ينبغى ألا تتوقع من الناس ان يحترموا القانون أو يبالوا به.
إن القمع والظلم لا ينتجان أمنا، ووحده العدل الكفيل بذلك. من ثم فإن سفينة الوطن لن يقدر لها أن ترسو على بر الأمن والسلام إلا إذا اهتدت فى ذلك بالعدل الذى يطهر النفوس من بذور العنف ونوازع الانتقام والثأر. ولئن قيل ان العدل أساس الملك، فإننا لا نذهب بعيدا إذا قلنا فى المشهد الذى نحن بصدده إن العدل أيضا أساس الأمن.
وإذا قال قائل فى معرض الرد على ما أدعيه انه لا تسامح مع الإرهاب الذى فعل كذا وكذا، فأغلب الظن أن انفعاله فى هذه الحالة خلط عليه الأمور، بحيث لم يدرك المقصود بما أدعو إليه. لأن الاحتكام إلى العدل يعنى ان يعاقب المذنب على ما قدمت يداه، وأن يخلى سبيل البرىء. وأرجو ألا أكون بحاجة إلى الإشارة إلى ما يقتضيه العدل فى معاقبة المذنب لكى يلقى ما يستحقه. كما أرجو ان نتخلى عن ابتذال مصطلح «الإرهاب»، الذى صار عند البعض وصمة تلاحق كل من يعارضنا برأيه وربما كل من لا يعجبنا فى مظهره. لأن الاحتكام إلى معايير القانون، ضوابطه كفيل بتبديد أى التباس يثور فى هذا الصدد.
أما إذا استعبط أحدهم وأبدى موافقته على الفكرة ثم استدرك قائلا إنه ليس هناك قمع أو ظلم، فإننى أحيله إلى البيان الذى أصدرته فى 12 فبراير الماضى 16 منظمة حقوقية مستقلة فى مصر. وتضمن ردا مفحما على دعاوى إنكار القمع والظلم التى ترددها المصادر الأمنية وأبواقها الإعلامية. وإذا فاته ذلك فشهادات الضحايا موجودة على الإنترنت. ومن ساوره شك بعد ذلك فليحتكم إلى ضميره حين يقارن بين الحكم بالسجن لمدة 3 سنوات على قناص العيون الذى استهدف الثوار وبين الحكم على طلاب جامعة الأزهر المتظاهرين 17 سنة لكل متهم، وليسأل نفسه بعد ذلك عما إذا كان ذلك من قبيل الظلم أو العدل.
لست فى صدد الإدانة أو الاتهام، لكننى فقط أردت أن أنبه إلى أن مسألة استعادة الأمن باتت تحتاج إلى تعريف وتحرير، وأن السياسات الأمنية المتبعة إذا استمرت على النحو الحاصل الآن فإن الاستعادة المنشودة ستصبح هدفا بعيد المنال وسرابا نسمع عنه ولا ندركه.
أذكِّر أخيرا بقصة خليفة المسلمين عمر بن عبدالعزيز الذى تلقى رسالة من أحد الولاة عبر فيها عن حاجته إلى العون لإصلاح الحصون التى تهدمت فى حين ان الخراج قل، فرد عليه قائلا «حصن ديارك بالعدل». وهى عبارة جديرة بأن نستلهمها فيما نحن بصدده بحيث نقول لمن يهمهم الأمر: «أمِّنوا دياركم بالعدل».
نقلاً عن "الشروق"