فهمي هويدي
أجراس الحرب على الفساد فى مصر التى جدد إطلاقها رئيس جهاز المحاسبات فى الأسبوع الماضى لم تجد الصدى الذى تستحقه رغم خطورتها. استثنى من ذلك تعليقات معدودة، أبرزها ما ذكره الأستاذ نجاد البرعى المحامى والحقوقى فى جريدة «المصرى اليوم» (عدد 21/3) وأكد فيه على التضامن مع المستشار هشام جنينة، كما لفت الانتباه إلى أنه بدلا من التحقيق فيما ذكره من وقائع خطيرة ومثيرة على الملأ فى جريدة الشروق (يومى 18 و19/3) فإن الرجل استدعى للتحقيق معه فى أمر آخر، فى رسالة مبطنة تهدده وتتوعده.
عندى كلام فى الموضوع أسجله من باب التنبيه والتذكير وألخصه فى النقاط التالية:
• أن مؤسسة الفساد فى مصر أكبر وأقوى مما نتصور. ذلك ان نموها وتشعب أطرافها وتعدد مصالحها طوال أربعين سنة على الأقل فرض لها كيانا له أقدامه الراسخة وجذوره العميقة، وهو ما وفر لها رصيدا من الجرأة يمكنها من التحدى والمنازلة، بل وإنزال العقاب بمن يحاول اعتراض طريقها وما محاولات التنكيل بالمستشار جنينة وحملات التشويه الإعلامى التى تستهدفه إلا من تجليات ذلك المسعى. لذلك أزعم أن الرجل إذا أصر على موقفه من حماية أموال الدولة والتصدى لمؤسسة الفساد، فإنه لن يسلم من التطاول والأذى.
• أن الرجل أصبح يخاطب الإعلام محاولا وضع الحقائق أمام الرأى العام، بعدما أدرك أن مخاطبته لأجهزة الدولة لم تحقق النتائج التى يرجوها. ذلك ان بعض الأصداء التى تلقاها كانت دون المستوى الذى توقعه، فى حين أنه فى حالات عدة لم يتلق أية أصداء، حين وجه رسائل بوقائع معينة طلب التحقيق فيها، إلا أنه لم يتلق ردا من الجهات المعنية ناهيك عن أن موظفى جهاز المحاسبات منعوا من أداء واجبهم فى بعض الجهات الحكومية.
• أن إحدى المشكلات التى تعترض المعركة ضد مؤسسة الفساد أن أطرافها من كبار الموظفين والمسئولين فى الدولة. الذين يفترض فيهم حماية المال العام والتصدى لأى عدوان عليه. وذلك أوضح ما يكون فى ملف الثروة العقارية والأراضى الجديدة. إذ فى حين أن أغلب التوسعات العمرانية قصد بها توفير احتياجات الأجيال الجديدة ومواكبة الزيادة المستمرة فى أعداد السكان، تبين أن الذين استأثروا بالأراضى الجديدة هم الفئات المتميزة التى لا تعانى من أية مشكلة فى السكن. وهؤلاء أرادوا ان يدخلوا إلى عالم الثراء من ذلك الباب، ولم تكن المشكلة مقصورة على ذلك لأن الذين حصلوا على تلك الأراضى بالمخالفة للقانون الذى خصصها لغيرهم، اشتروها بأثمان بخسة ضيعت على الدولة مليارات الجنيهات. وما حدث فى أراضى الحزام الأخضر بمدينة 6 أكتوبر دليل على ذلك، فحين خصصت هيئة المجتمعات العمرانية 15.614 فدان لشركة 6 أكتوبر الزراعية، فقد تم توزيعها على الفئات التالية: 3400 فدان للهيئات القضائية (أعضاء نادى القضاة والنيابة العامة العاملون بالمحكمة الدستورية) ــ 3900 فدان لضباط أمن الدولة بالقاهرة والجيزة ــ 9314 فدانا لشركة 6 أكتوبر ــ وحسب التقرير الرسمى للجهاز فإن ميزانية الدولة خسرت فى هذه العملية نحو 4 مليارات جنيه.
• ليست المشكلة مقصورة على العدوان الذى تمارسه الفئات المتميزة فى المجتمع التى يفترض أنها تحرس الأمن والقانون فى مصر. وانما لها وجها آخر يتمثل فى أن هؤلاء بأدائهم يقدمون نموذجا يحتذيه الآخرون، الأمر الذى يعنى انهم لا يمارسون الفساد فحسب وإنما يشيعونه بين الناس أيضا. ومن هذه الزاوية فإنهم لا يصبحون مجرد أفراد أو جهات ضالعة فى الفساد، وإنما يتحولون إلى «بؤر» تروج له بين الناس.
• لا نستطيع أن نفصل بين ضلوع شرائح واسعة من نخب المجتمع وفئاته المتميزة فى الفساد وبين غياب الرقابة والمحاسبة فى مصر. إذ طالما بقيت أجهزة الرقابة الحكومية تحت سلطان الدولة. وطالما ظل البرلمان (إن وجد) ذراعا للسلطة وليس رقيبا عليها (كما كان طوال الأربعين سنة الماضية) وإزاء هشاشة المجالس المحلية المنتخبة وتحولها إلى جماعات من المنتفعين، فإن الفساد يصبح مطلق اليد وبغير حدود. وإذا صح ذلك فهو يعنى أن الفساد والاستبداد متلازمان، وأن الديمقراطية لا تجتث الفساد حقا، ولكنها توفر أفضل السبل لمكافحته والحد من مداه.
• بسبب من ذلك فإننا لا نستطيع ان نطمئن إلى قدرة مؤسسة واحدة على التصدى للفساد فى مصر، لأن المهمة أثقل بكثير من ان ينهض جهاز المحاسبات بعدما تصادف أن ترأسه قاضٍ نزيه اختار أن يغامر بخوض هذه المعركة. وما لم تقف السلطة إلى جواره فإننى أشك كثيرا فى إمكانية الانتصار فيها.
إننى لا أريد أن أقلل من شأن الجهد الذى يبذله جهاز المحاسبات، لكننى أريد أن أقول إن مكافحة الفساد ينبغى أن تكون سياسة الدولة وليست مهمة أى جهاز رقابى لوحده. وإلى أن يتحقق ذلك فإن دور جهاز المحاسبات سيظل محصورا فى السعى لفضح الفساد وليس لوقف انتشاره والقضاء عليه. وتلك مهمة مطلوبة لا ريب، لأنها على الأقل تشير إلى مواطن الداء بما يكشف مصادره ويمهد الطريق إلى علاجه إذا ما توافرت الإرادة السياسية لذلك.
نقلاً عن جريدة "الشروق"