فهمي هويدي
مسلسل اللامعقول مستمر فى مصر، إذ فى حين لم نُفِق من المذبحة الجارية للقضاة، حتى فوجئنا بمذبحة أخرى ضحيتها القضاء ذاته، الأمر الذى يثير شكوكنا فى الأهداف الحقيقية لذلك الذى يجرى، ذلك إننى ظللت طوال الأسابيع الأخيرة أتابع بدهشة بالغة عملية التنكيل برموز القضاء وبقاماتهم الرفيعة، وهو ما تمثل فى تقديم بلاغات كيدية ضدهم، مرة بإهانة القضاء(!)، وتارة بالاشتغال بالسياسة، وتارة أخرى بالانخراط فى تنظيم سرى. كما تمثل فى تسريب أخبار إلى الصحف تتحدث عن ضبطهم وإحضارهم إلى جانب إحالة بعضهم إلى الصلاحية للنظر فى تأديبهم، إلى غير ذلك من حملات التشوية المتعمد التى لم تبق لأولئك الرموز شيئا من الكرامة، وكانت النتيجة أنه تم استهداف اثنين من وزراء العدل السابقين ونائب سابق لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، ورئيس جهاز المحاسبات، وبعض نواب رئيس محكمة النقض ورؤساء محاكم الاستئناف. وكان المستشار زكريا عبدالعزيز رئيس استئناف القاهرة والرئيس السابق لنادى القضاء أحدث ضحية لذلك الكيد الذى نشرت الصحف أنه أحيل بسببه إلى الصلاحية، وقد سبقه المستشار الجليل محمود الخضيرى المسجون حاليا على ذمة قضية غريبة اتهم فيها بالاشتراك فى التعذيب.
كان أمرا مستغربا ومشينا أن يستهدف التنكيل أولئك الرموز الذين قادوا حملة الدفاع عن استقلال القضاء، ووقفوا ضد تغول السلطة واستبدادها طوال الثلاثين سنة الأخيرة على الأقل. وبدا مدهشا ومحيرا أن يحدث ذلك فى حين يرأس الدولة فى الوقت الحاضر. من كان قاضيا ومستشارا يعرف قدر هؤلاء ومكانتهم. أما المفارقة المريبة حقا فقد تمثلت فى أن بعض قضاة التحقيق الذين أحيلت إليهم البلاغات المقدمة ضد أولئك الكبار، سبق أن وجهت إليهم أصابع الاتهام فى تزوير الانتخابات، ولم يبرأوا مما نسب إليهم بعد.
لم يقف الأمر عند تلك الحدود، إنما امتد التنكيل بحيث شمل نحو ١٥٠ قاضيا ممن أيدوا الثورة. فأحيلوا بدورهم إلى الصلاحية، كما أسقطت عضويتهم فى نادى القضاة بالمخالفة للائحة النظام السياسى، كى لا ينافسوا غيرهم فى انتخابات مجلس إدارة النادى. الخلاصة أن ساحة القضاء شهدت فى الآونة الأخيرة حملة واسعة النطاق لتصفية الحسابات، تعددت أسبابها ومشكوك فى براءتها. ومن النماذج الصارخة على ذلك أن قاضيا فى إحدى محافظات الوجه القبلى فوجئ بإنه أصبح متهما فى قضية اخترعتها التقارير الأمنية، واعتبرتها تنظيما مواليا للإخوان باسم قضاة من أجل مصر، ولأن الرجل كان بعيدا عن القضاة الذين أيدوا الثورة، فقد أجرى اتصالات عديدة للتعرف على أسباب اتهامه، وحين وقع على من أخبره بالحقيقة آنذاك، قيل له إنه أُقحم فى القضية لسببين، أولهما أنه نظرت أمامه قضية كان أحد مساعدى وزير العدل مدعيا فيها، وقد اتصل به مساعد الوزير لكى يضع هذه الخلفية فى اعتباره، ولكن صاحبنا وجد أنه لا حق له فلم يحكم لصالحه. وهو موقف حسب عليه وسجل ضده، السبب الثانى أن القاضى المذكور قدر له أن يرأس لجنة انتخابية أثناء حكم الإخوان، وتصادف آنذاك أن الدكتور محمد بديع مرشد الإخوان كان من المصوتين فى تلك اللجنة، وحين دخل الأخير إلى القاعة فإن صاحبنا رحب به وصافحه. واعتبرت تلك نقطة أخرى حسبت عليه وسجلت ضده، وبسبب ارتكابه هاتين «الجريمتين» فإن الرجل اعتبر مغضوبا عليه، وتم تأديبه بإدراجه ضمن المتهمين فى قضية قضاة من أجل مصر!.
كانت تلك بعض شواهد المذبحة الدائرة فى محيط القضاة، وفى حين اعتبرتها كارثة تسىء إليهم، وتشوه صورتهم فإننى لم أتوقع حدوث الأفدح حين بدا أن القضاء ذاته لم يعد فى نظر كثيرين صرح العدالة وملاذ المظلومين، الأمر الذى نال من هيبته وهز الثقة فيه، فقد فوجئنا خلال العام الأخير بأن الذين اتهموا بقتل الثوار وتعذيبهم تمت تبرئتهم فى نحو أربعين قضية رفعت ضدهم. وفى الوقت ذاته انهالت الأحكام بالغة القسوة ضد الشباب والفتيات والتى وصلت إلى السجن ١٥ و١٧ سنة لمجرد اشتراكهم فى التظاهرات الطلابية، حتى فجعنا فى الحكم الأخير الذى صدر يوم الاثنين ٣/٢٤ بإعدام ٥٢٩ شخصا من قاضى محكمة جنايات المنيا، فى قضية اتهم فيها ذلك العدد الضخم بقتل ضابط شرطة والشروع فى قتل اثنين، ولم يكن الحكم وحده هو الفضيجة التى دوت أصداؤها فى أنحاء العالم، وإنما كانت هناك فضيحة أخرى تمثلت فى أنه لم تكن هناك محاكمة أصلا، حيث لم تتبع فيها أى من الاجراءات المقررة، من اثبات حضور المتهمين وسؤالهم، وصولا إلى سماع مرافعات الشهود والدفاع. إذ استغرقت الجلسة الأولى ٢٠ دقيقة فقط، ثم تم النطق بالحكم فى الثانية، وبدا أن الطريقة التى تمت بها العملية بمثابة إهدار للقانون وطعنة تهز الثقة فى العدالة، وتكاد تنهى عصر القضاء فى مصر، عبرتّ عن ذلك تعليقات عدة فاعتبرتها منظمة العفو الدولية حدثا غير مسبوق فى التاريخ المعاصر. وكررت هيومان رايتس ووتش الملاحظة ذاتها. وكتب الزميل الصحفى المعروف عبدالبارى عطوان قائلا: إن الحكم أطلق رصاصة الرحمة فى رأس القضاء، وإن مصر أصبحت مقبلة على عهد المشانق، وإنه بمثابة دعوة صريحة للعنف والحرب الأهلية.
أثناء الثورة فى عام ٢٠١١، ظهر بين القضاة اتجاهان، الأول اعتبر ثوار ميدان التحرير «رعاع»، على حد تعبير أحدهم على شاشة التليفزيون، أما الثانى فقد انحاز إلى الثورة، وانضم إلى الجموع المحتشدة فى الميدان. لكن الأمور تغيرت بعد ٣٠ يونيو، ورجحت كفة الأولين فى ظل نظام ٣ يوليو، وهى خلفية استحضرتها فى الآونة الأخيرة. الأمر الذى استدعى عندى السؤال التالى: هل نحن بصدد تصفية حسابات مع القضاة الوطنيين فقط، أم إنها أيضا تصفية حسابات مع «الرعاع» والذين قاموا بثورة ٢٥ يناير؟.
نقلاً عن "الشروق"