فهمي هويدي
اختلطت علينا الأمور فى مصر بحيث صرنا بحاجة للتنبيه إلى الفرق بين انتخاب العريس وانتخاب الرئيس. ذلك ان العريس عادة ما ينتخب لفضائله الشخصية وربما أيضا لقدراته التى تمكنه من إدارة البيت وتحمل مسئوليته. وإذا شاب القصور بعض تلك القدرات، المالية مثلا، فإن المثل الشائع فى مصر ينحاز إلى قبوله رغم ذلك ترجيحا لسجل فضائله باعتبار أن «شراء الرجل» فى هذه الحالة قيمة لا تعوض، فى حين كل ما عدا ذلك يمكن تعويضه فى المستقبل.
لأن إدارة الدولة غير إدارة البيت، فإنه يتعذر المساواة بين شراء الرجل وشراء القائد أو الرئيس. وإذا كان الأول يتم انتخابه لفضائله الشخصية، فإن ذلك لا يعد كافيا فى الحالة الثانية. ولعلى لست بحاجة إلى تبيان الفرق بين مشروع الأسرة ومشروع الدولة. حيث لا وجه للمقارنة بين المواصفات المطلوبة لتنفيذ المشروعين. ولا سبيل للمقابلة بين طموح العريس رب الأسرة وطموح الرئيس الذى يقود الدولة. وحدود طموح الأول مفهومة، لكن طموح الثانى لا حدود لها، لكنها ينبغى أن تكون معلومة. وفى كل الأحوال فإننا لا نعرف رئيسا ينتخب استنادا إلى فضائله الشخصية وحدها. وإنما ينبغى له فضلا عن ذلك ان يقدم نفسه إلى المجتمع من خلال رؤيته أو انجازاته وخبرته ولا يصح بأى معيار ان ينتخب رئيس «على بياض». أعنى بلا رصيد من التاريخ يعزز كفته، أو إنجاز على الأرض يرفع من قدره وقامته، ولا رؤية تشى بهمته. بكلام آخر فإننا لا نستطيع أن ننتخب رئيسا لمجرد أننا نتوسم فيه خيرا، أو أن المصادفة التاريخية جعلتنا نحسن الظن به.
اننى استحى أن أضرب المثل بمدربى فرق كرة القدم، الذين لا يسمح لواحد منهم ان يتبوأ تلك المكانة إلا بعد أن يثبت جدارته ويؤكد تاريخه على قدرته على الانجاز، ويطمئن «النادى» الذى يلتحق به إلى أنه قادر على ان يحقق للفريق طموحاته التى يتطلع إليها. وما لم ينجز ما وعد به فإنه ينحى عن موقفه على الفور.
الأمر يختلف كثيرا فى السياسة. والحاصل فى فرنسا هذه الأيام دليل حى على ذلك. ذلك ان الرئيس الحالى فرانسوا هولاند حين تم انتخابه فى عام 2012، كان قد أعلن برنامجا اختار له عنوانا هو: 60 التزاما من أجل فرنسا. ركز فيه على الأوضاع الاقتصادية، وتعهد بأن يستمر نمو الاقتصاد الفرنسى بنسبة 0.5٪ فى الجزء المتبقى من عام ٢٠١٢(كان قد انتخب فى شهر مايو). وان يزيد النمو بمعدل 1.7٪ فى عام 2013. كما تعهد بتوفير 60 ألف وظيفة خلال 5 سنوات. ضمن الجهود التى وعد بها لمكافحة البطالة، لكن الرجل لم يستطع ان يفى بما وعد به بعد مضى سنتين من انتخابه. وكانت النتيجة ان الشعب عاقب حزبه الاشتراكى فى الانتخابات البلدية التى جرت خلال الشهر الماضى، بحيث خسر مرشحوه فى حوالى 100 بلدية، وتقدم عليه حزب يمين الوسط الذى يترأسه ساركوزى (الرئيس السابق) الذى حصد 47٪ من الأصوات، فى حين حصل حزب هولاند على 42٪. وهو ما اضطره إلى إجراء تعديل وزارى وتغيير رئيس جديد للحكومة فى محاولة لاستعادة شعبيته وتعويض الخسائر التى تعرض لها حزبه.
لا توجد ديمقراطية أو شبه ديمقراطية ينتخب فيها الرئيس بغير برنامج يوضح للناخبين بنود عقده المفترض معهم. ليس فقط لكى يعرفوا إلى أين هم ذاهبون تحت قيادته. ولكن أيضا لكى يتمكنوا من محاسبته على مدى وفائه بما تعهد به.
بهذه المناسبة أذكر بأن فقهاء المسلمين فى وقت مبكر اعتبروا الإمامة (الرئاسة بلغة زماننا) عقدا بين الحكام والمحكومين. وفى بعض ممالك المغرب الإسلامية، على عهد الموحدين والمرابطين مثلا، كان العلماء يطلبون من السلاطين قبل بيعتهم التوقيع على عقد يحدد المهام الأساسية التى يتعين الواحد منهم أن ينهض بها أثناء ولايته.
استطرادا أذكر أيضا بأن بعض فقهاء المسلمين (ابن تيمية أحدهم) استشهدوا فى الحكم بفكرة تفضيل الكافر العادل على المسلم الجائر، معتبرين ان عدل الأول (مشروعه) هو ما ينفع الناس، أما كفره فحسابه على الله يوم الحساب. أما فضائل الثانى الشخصية وورعه فإنها قد تحسب له عند الله، لكن ظلمه للناس يحط من قدره ولا يغتفر له.
ما كان لى أن أذكِّر بما أحسبه أمرا بديهيا من المعلوم فى السياسة بالضرورة، إلا حين ترددت فى وسائل الإعلام مؤخرا مقولات استلهمت فيما يبدو مقولة «شراء الرجل». وادعت ان المشير السيسى لا يحتاج إلى برنامج ليخوض به الانتخابات الرئاسية. وحجتهم فى ذلك انه محل ثقة والتفاف الناس حوله مؤكد ومضمون. وبنوا على ذلك ان تقدمه بشخصه كان يغنى عن أى برنامج. وتلك دعوة خطرة. ليس فقط لأنها تحثنا على التوقيع له على بياض. وليس فقط لأن فضائله تحسب له وليس لنا. ولكن أيضا لأن الرجل رغم سجله الوظيفى المتميز، إلا أنه بلا تاريخ فى السياسة أو فى الحرب، لذلك يدهشنا ان يقترح علينا البعض ان نسلمه قيادة الوطن دون ان يتوفر لنا معيار يمكننا من ان نسائله أو نحاسبه على ما فعل أو لم يفعل ــ هل هذا هو المجتمع المدنى والديمقراطى الذى قامت لأجله الثورة ودفع ثمنه من دماء آلاف الشهداء؟!
"الشروق"