فهمي هويدي
من أى زاوية نظرت ستجد أن المشهد غير قابل للتصديق. إذ لا يعقل ان يصبح التعذيب ظاهرة بعد ثلاث سنوات من الثورة المصرية التى انطلقت أساسا ضد الاستبداد، ودفعت لقاء ذلك ثمنا غاليا من دماء ألف شهيد قتلوا خلالها. ذلك أن عودة الظاهرة لا تمثل انتهاكا جسيما للحقوق والحريات والكرامات فحسب، وإنما هى بمثابة عودة صريحة لنظام مبارك الأمنى وإعلانا عن ارتداد الثورة وتسجيلا لأحد الانتصارات المهمة للثورة المضادة.
بذات القدر فإنه لا يعقل ان يعتاد الناس على تلك الانتهاكات بحيث تصبح خبرا عاديا ومألوفا فى الصحف. والأدهى من ذلك والأمر أن يلقى التعذيب أو القتل ترحيبا وتبريرا من البعض. دعك من الانكار الذى ما برحت تؤكده أبواق المؤسسة الأمنية بين الحين والآخر، ذلك أن الشهادات شبه اليومية التى تتداولها مواقع التواصل الاجتماعى تكذب تلك الإعلانات ولا تدع مجالا لتصديقها. خصوصا أنها إما صادرة عن الضحايا أنفسهم أو عن ذويهم ومحاميهم الذين يتحدثون عن حالات رأوها بأعينهم، ولم يجرؤ أحد على نقض شهاداتهم أو التدليل على عدم صحتها.
الذى لا يقل خطورة عن ممارسة التعذيب، الذى يعد جريمة بكل المقاييس، هو صداه فى بعض الأوساط التى لم تعد تستهجنه أو تستنكره. ومن يقرأ التعليقات التى يعبر بها هؤلاء من خلال الإنترنت على شهادات التعذيب أو أحكام السجن المجحفة أو الإعدام، يدهشه المدى الذى ذهب إليه تشويه الإدراك وتلويث الضمائر. ذلك أن هؤلاء عبروا عن شعور بالشماتة وبالكراهية للمخالفين جعلهم يقتنعون بأنهم لا يستحقون الحياة، وأن الإبادة عقاب طبيعى، وعادل لهم. وهو ما يعد إلى أذهاننا ثقافة الحكم النازى، فى ألمانيا (أربعينيات القرن الماضى)، حين لم تكن المشكلة مقصورة على سلطة مستبدة تبنت مبدأ تفوق العرق الآرى وقبلت بفكرة تطهير ألمانيا من الأعراق الأخرى، لكن ما فاقم المشكلة أن تلك الأفكار العنصرية البغيضة وجدت أنصارا لها فى المجتمع الألمانى. وذلك التشابه يضعنا بإزاء مفارقة غير قابلة للتصديق أيضا تتمثل فى ان الثورة ضد الاستبداد التى انطلقت فى عام 2011 فرخت حركة شبه نازية فى عامى 2013 و2014.
من المفارقات أن فكرة إلغاء الآخر والقبول بسياسة إبادته يتم التبشير بها والترويج اليومى لها فى الوقت الذى يؤكد الخطاب السياسى الرسمى فى كل مناسبة على رفض اقصاء الآخر. وهذا التناقض لا تفسير له سوى أن ذلك الخطاب يتحدث عن الالتزام برفض أى إقصاء لأى طرف من الفئات والمجموعات المؤيدة للسلطة. أما المغايرون فهم ليسوا داخلين فى الحساب باعتبار أنهم ينتمون إلى «شعب آخر»، كما بشرت بذلك إحدى الأغنيات فى وقت سابق.
المثير للدهشة ان دوائر المسوغين للتعذيب ليست مقصورة على عوام الناس وبسطائهم الذين تأثروا بدعايات التسميم وخطاب الكراهية، ولكنها شملت بعضا من عناصر النخب ــ الذين تخلوا عن التزامهم الأخلاقى، واختاروا الانحياز إلى السلطة وتأييد سياساتها أو الوقوف موقف الحياد إزاء ممارساتها الفجة وانتهاكاتها الصارخة. وقد قرأت لبعضهم وسمعت من البعض الآخر ما يفيد تمرير تلك الممارسات والانتهاكات بذريعة أنها من قبيل الضرورات التى تبيح المحظورات، وهو ما اضطرنى إلى تذكيرهم بأن الإباحة التى قررها النص مرهونة بعوامل ثلاثة، أولها توافر شرط الضرورة الذى لا ينبغى أن يخضع للهوى السياسى، كما لا ينبغى أن يمثل التفافا على الحظر أو احتيالا عليه. العامل الثانى يتمثل فى أهمية أن تقدر الضرورة بقدرها دون افتئات أو تجاوز. بما يعنى أن الممارسة فى هذه الحالة ليست مطلقة بلا حدود، ولكنها محكومة بالقدر الذى يكفل دفع الضرر المحتمل جراء الالتزام بحدود الحظر. العامل الثالث والأهم ان تحقق الإباحة فى هذه الحالة مصلحة شرعية للفرد أو للمجتمع، بمعنى ان يظل الهدف مشروعا ونبيلا فى كل الأحوال.
تستمر الدهشة حين نجد أن بعض الرموز فتحوا ملفات المستقبل بمناسبة الدخول فى مرحلة الانتخابات الرئاسية دون أدنى إشارة إلى الجرح الكبير المفتوح والمتقيح المتمثل فى استمرار التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان وملف آلاف الضحايا القابعين فى السجون المعلوم منها والمجهولة.
وقعت على تشخيص لما نحن بصدده فيما كتبه أحد شباب الثورة، الشاعر والباحث تميم البرغوثى فى جريدة «الشروق» (عدد 8/4) قال فيه إن الثورة المصرية خربت خرابا شاملا، وانتجت فاشية مختلة عقليا.. (حتى صرنا) فى زمن يشبه أزمنة عيدى أمين فى أوغندا وجان بيدل بوكاسا فى أفريقيا الوسطى ومعمر القذافى فى ليبيا وبولبوت فى كمبوديا.. إذ فى بضعة أشهر، منذ «ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة» رزقت مصر بأربع مذابح، واحدة منها هى أكبر مذبحة عرفتها القاهرة منذ أواخر القرن الثامن عشر. ورزقت بثلاثة وعشرين ألف معتقل، منهم نساء ومن النساء قاصرات. ورزقت مصر كذلك بالتحقيق فى بلاغ يتهم دمية قماشية بالإرهاب، وبحبس طائر لقلق للاشتباه بأنه جاسوس، حيث وجدوا جهاز تتبع مثبتا على ساقه، وباكتشاف علمى معجز يزعم صاحبه ان جهازا اخترعته الدولة يحول الأمراض المستعصية إلى كرات لحم مفروم يتغذى عليها الناس.. ولم نقرأ فى تراجم سلاطين المماليك وولاة العمثانيين ولاسير الغزاة من الأفرنج سواء فى القرن العشرين أو حتى فى القرن العاشر عن هذا كله مجتمعا فى عصر واحد.
إلى هذا المدى وصل القنوط ببعض شباب الثورة الذين يرفضون تصديق ما يجرى.
"الشروق"