فهمي هويدي
حين زار رئيس الوزراء المصرى تشاد أخيرا كان عنوان صحيفة الصباح كالتالى: مصر تكسر العزلة الأفريقية. وحين قررت الإدارة الأمريكية تسليم دفعة طائرات الآباتشى إلى مصر تحدثت عناوين الصحف فى اليوم التالى عن «تراجع» الولايات المتحدة وعن «مغازلة» واشنطن للقاهرة. وحين زار وزير الخارجية بيروت تحدثت صحفنا عن عودة مصر لأداء دورها العربى. وعندما توجهت عدة وفود «شعبية» أوفدتها مصر الرسمية إلى عدد من العواصم فى أوروبا وآسيا تحدثت صحفنا عن النجاحات التى حققتها تلك الوفود فى تحسين صورة مصر وتصحيح الانطباعات الخاطئة عن «ثورة» 30 يونيو.
فى هذا السياق، ليست بعيدة عن أذهاننا أصداء زيارة المشير عبدالفتاح السيسى لموسكو التى استغرقت عدة ساعات، لكن وسائل الإعلام المصرية اعتبرتها رسالة ناصرية و«صفعة» لواشنطن وتحدثت عن صفقة سلاح جديدة مع الروس، وعن اتجاه مصر إلى تنويع السلاح، وسعيها إلى إحداث توازن فى علاقاتها الخارجية لمواجهة الضغوط الأمريكية وتحدى سياسة الرئيس أوباما. ولا أحد ينسى أن السفير الروسى فى القاهرة حين سئل عن تلك الأصداء، فانه رد قائلا ان تلك أمور تحدثت عنها الصحف المصرية. وكان ذلك بمثابة تعبير دبلوماسى أراد به الرجل أن يقول ان تلك ادعاءات ترددت فى مصر ولا علاقة لموسكو بها، فيما اعتبر فى حينه أنه تكذيب مهذب لما نشرته وروجت له وسائل الإعلام المصرية.
ما سبق يرسم صورة للتطور الحاصل فى وسائل الإعلام المصرية، التى باتت تقدم مفهوما جديدا للخبر والتحليل السياسى الذى صار يعتمد على النوايا والامنيات وليس الحقائق والافعال إذ كما ان السفير الروسى فى القاهرة ذكر ان ما نشر فى مصر عن زيارة السيسى لموسكو هو من «إبداعات» إعلامها، فان ذلك ينطبق أيضا على بقية «الأخبار» التى تصدرت عناوين الصحف المصرية. ذلك ان زيارة المهندس إبراهيم محلب لتشاد التى لا أشك فى أن محاولة كسر عزلة مصر الأفريقية كانت من بين أهدافها. إلا أنها لم تغير شيئا فى موقف الاتحاد الأفريقى، كما انه لم يكن هناك أى تراجع فى الموقف الأمريكى إزاء مصر، لان ما حدث كان بمثابة تطور محسوب وليس تراجعا، فضلا عن ان زيارة السيد نبيل فهمى لبيروت لم تحقق أى تقدم يذكر فى دور مصر الذى لا أحد يشعر به فى العالم العربى. وهذه النتيجة تنطبق على زيارة الوفود الشعبية والسياحة السياسية التى قامت بها لعدة عواصم أوروبية. ان شئت فقل ان ذلك كله تم فى إطار المساعى والتطلعات السياسية، التى تعاملنا بها إعلاميا على انها حقائق وأخبار.
كنا نعيب على الوزراء والحكومات فى السابق انهم دأبوا على تسويق انجازاتهم الوهمية فى مجالات الإنتاج والتعمير من خلال ما تنشره الصحف على ألسنتهم من مشروعات لا ترى النور، ولكنهم كانوا يواصلون الحديث عنها بهدف تحسين الصورة وايهام الرأى العام بان التقدم حاصل فى تلك المجالات وان البلد يعيش «أزهى عصوره» الآن نحن نفعل نفس الشىء فى السياسة، حيث لا نكف عن إيهام الناس بتحقق أمور لا وجود لها على أرض الواقع، والنفخ فى أى «حبَّة» سياسية لاقناعنا باننا بصدد «قُبَّة» تجذب الانتباه وتحقق الانجاز الذى نصبو إليه.
الأسوأ من توظيف الإعلام فى تلميع المسئولين ومداهنتهم، ان يستهدف التوظيف تكريس الظلم واتهام الأبرياء. ذلك انه إذا كان الغش والتدليس أمرا سيئا ومذموما، فان ايقاع الظلم واستباحة كرامات الناس وحرماتهم اسوأ وأضل سبيلا، والاثنان حاصلان فى مصر للأسف الشديد. إذ بموازاة الشواهد التى أشرت إليها توا، فاننا نجد تنافسا أشد فى الإعلام على كيل الاتهام للمخالفين بما يؤدى إلى اغتيالهم سياسيا وأدبيا. فهم بين مشتبهين فى انتمائهم إلى الطابور الخامس، أو منخرطين وضالعين فى الخيانة والعمالة. وإذا كان تبادل الاتهام والتجاذب مع المخالفين أمرا مفهوما وبعضه مشروع ضمن حدود معينة، إلا أن اسوأ الاتهامات وافدحها هى تلك التى يرمى بها أناس يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم والرد عليها، وذلك هو الحاصل مع آلاف البشر الذين تم اعتقالهم فى مصر منذ شهر أغسطس الماضى (2013)، إذ تنافست الأبواق الإعلامية، بتوافق أو تنسيق مع المؤسسة الأمنية ــ على اطلاق سيل الاتهامات بحقهم التى لم تستهدف تجريمهم وشيطنتهم فحسب، ولكنها استهدفت أيضا تلويث تاريخ امتد إلى عشرات السنين السابقة. وذلك «جرم مهنى لا ريب وسياسى بامتياز، فضلا عن انه جرم أخلاقى أيضا. إذ ليس من المروءة أو الشهامة ــ لا تسأل عن الفروسية ــ ان تقاتل محبوسا أو تطعن مكبلا أو ان تسُب مكمما وممنوعا من الكلام.
الثغرة الأساسية التى ينفذ منها ذلك العبث المهنى السياسى والأخلاقى انه فى غيبة القيم الديمقراطية فان الكلام يطلق بالمجان ولا أحد يحاسب عليه، خصوصا إذا كنا بصدد مديح أهل السلطة وهجاء معارضيها. ذلك ان كليهما مطلوب ومرغوب فى الأجواء الراهنة، بالدرجة الأولى لانه يميل مع هوى السلطة ويخدم سياساتها. ولئن كان ذلك مفهوما فى الأجل القريب إلا أن خطره أكيد فيما عدا ذلك، لانه عند الحد الأدنى يفقد الثقة فى الخطاب الإعلامى والسياسى ويسحب من رصيد الثقة فيها، الأمر الذى يضم تجليات ذلك الخطاب إلى قائمة «كلام الجرايد». وهو المصطلح الذى يعبر عن خفة الكلام وانتسابه إلى الثرثرة والحكى الفارغ. وذلك مبرر كاف لإفقاده الصدقية والاحترام.
نقلا عن الشروق