بقلم فهمي هويدي
هل أصبح تلفيق الاتهامات لخلق الله مرضا مستعصيا على العلاج فى محيط الشرطة المصرية؟ قبل الإجابة عن السؤال أرجوك أن تقرأ جيدا هذه القضية العجيبة التى نشرتها صحيفة «الشروق» يوم ٤/٥ ووصفتها بأنها أغرب من الخيال. بداية القصة كانت عام ١٩٩٦ حين قام الطفل جمعة محمد سليمان البالغ من العمر آنذاك ١١ عاما ومن أبناء مركز أبو كبير بمحافظة الشرقية بزيارة لأحد أقاربه فى مدينة طنطا بمحافظة الغربية. ذلك أنه حين أراد العودة من طنطا وجد أنه وصل مبكرا، إلى محطة السكة الحديد، فاتجه إلى مسجد السيد البدوى، القريب من المحطة لينتظر فى باحته حتى يحين موعد القطار. وهو منزو بالمسجد تقدم نحوه ثلاثة أشخاص وسأله أحدهم عن سبب تواجده وطلب منه إبراز بطاقته الشخصية. وحين رد عليه قائلا إنه لا يحمل بطاقة، ما كان من الرجل إلا أنه لطمه على وجهه، الأمر الذى أثار غضب جمعة فدفعه واشتبك معه. استفز ذلك الرجل وصاحبيه فانهالوا بالضرب على الطفل الذى لم يكن يعلم أن الثلاثة من رجال المباحث. وعقابا له اقتادوه إلى قسم الشرطة لتأديبه على فعلته. هناك سأله الضابط عن بطاقة هويته، فأخبره بأنه لم يستخرج بطاقة لصغر سنه. حينئذ رد عليه الضابط قائلا: أنت عمرك ٢٠ سنة وإذا سألك وكيل النيابة قل له ذلك، وحذره من تغيير أقواله إذا أراد أن يخرج ويعود إلى بلدته. وسواء بسبب حداثة سنه أو لأنه شرقاوى حسن النية، فإنه عرف كيف يغضب لكنه لم يفطن إلى عاقبة ما طلب منه.
أحيل الطفل إلى النيابة دون محام ونفذ نصيحة «الباشا» حرفيا.. وتضمنت أوراق الإحالة تحريات الشرطة التى حفلت بالمعلومات المغلوطة والمكذوبة. إذ فضلا عن تزوير حقيقة عمره، فإن «التحريات» ذكرت أن جمعة يعمل سائقا يتاجر فى المخدرات، وأنه دأب على نقل «بضاعته» من الاسماعيلية إلى طنطا لترويجها. الأهم من ذلك أن هذه المعلومات وضعت على لسانه وقدمت بحسبانها أقوالا له. ولأنه لا يعرف القراءة والكتابة فإنه بصم عليها، واعتبر ذلك اعترافا وإقرارا منه بصحتها. وكان ذلك كافيا لإدانته أمام محكمة جنايات المقصورة، التى حكمت عليه بالسجن المؤبد وبغرامة مائة ألف جنيه، تم ذلك كله خلال شهرين، وجد صاحبنا نفسه بعدها مودعا فى سجن المنصورة، لتنفيذ العقوبة.
حين غاب جمعة عن أهله وفقدوا الأمل فى عودته، فإنهم رجحوا أنه مات أو قتل، فسلموا أمرهم لله ونسوه بمضى الوقت، إلا أن زائرا فاجأهم ذات يوم بما لم يصدقوه، إذ أخبرهم بأنه كان بين نزلاء سجن المنصورة وتعرف على جمعة الذى طلب منه عند خروجه بأن يبلغ أهله بمكانه، سارع شقيقه الأكبر صابر إلى زيارته وعرف منه تفاصيل قصته المذهلة، خرج صابر من زيارة السجن إلى مكتب المحامى أيمن عبدالله الذى لم يصدق الرواية، وحين اطلع على أوراق القضية اكتشف مفاجآت القصة ومفارقاتها، ووجد أن جمعة بصم على كل ما نسب إليه زورا. ومن المفارقات أنه استخرج وهو فى السجن بطاقة تحقيق شخصية اثبتت تاريخ ميلاده الحقيقى الذى يؤكد أنه حوكم وهو فى سن الحادية عشرة من العمر.
ما فعله المحامى أنه قدم التماسا للنائب العام وبلاغا للبحث القضائى بعد ٢٠ سنة من صدور حكم الإدانة طلب فيه إعادة النظر فى القضية، والتحقيق مع ٤ ضباط شرطة هم محررو الواقعة ومعدو التحريات ومعهم الشاهد الذى أيدها، كما طالب بالتحقيق مع وكيل النيابة الذى قام بتحرير الواقعة، حيث وجه إليه تهمة التقصير فى الاستدلال والخطأ فى تطبيق القانون وإحالة حدث لمحكمة الجنايات. وطالب باختصام المحامى العام وقاضى الحكم فى ذلك الحين.
هذه القصة الصادمة، نشرتها جريدة «الشروق» قبل أكثر من عشرة أيام ومرت دون أن تحدث أى صدى، لا فى وسائل الإعلام ولا فى دوائر رجال القانون والقضاء، رغم أننى توقعت أن يكون لها دويها الذى يفتح ملف تلفيق القضايا الذى لم يعد مقصورا على الخصوم السياسيين، لكنه استشرى حتى صار ادمانا يعانى منه أى مواطن يوقعه حظه العثر بين أيدى الشرطة، وهو ما يفتح الباب واسعا لاستباحته والتنكيل باستخدام كل ما لا خطر على البال من أساليب.
سيقول قائل بأنها حالة فردية، ولكن الإصابة بالطاعون يمكن أن تكون حالة فردية، لكنها من الخطورة بحيث تستدعى اتخاذ العديد من الإجراءات العاجلة لكى لا تنتقل عدواه للآخرين. بالتالى فكونها حالة فردية لا يبرر غض الطرف عنها أو تجاهلها.
لا أعرف كيف حوسب الذين تسببوا فى إلقاء الطفل فى السجن طوال عشرين عاما دون ذنب جناه، وأعجز عن تفهم نفسية الذين ارتكبوا تلك الجريمة البشعة. ولا أجد تفسيرا لما فعلوه سوى أنه تجسيد لثقافة التنكيل والاستهتار وازدراء القانون والناس التى أدمنتها أجهزة الشرطة.
كما أننى لا أعرف كيف يمكن تعويض «الطفل» عن السنوات العشرين التى قضاها ظلما فى السجن، وأزعم أن ذلك كله يحتاج إلى دراسة تطهر الشرطة من ذلك الطاعون، الذى اخشى أن يصدمنا بما هو أفدح، لأننا لا نعرف كم عدد القضايا المماثلة التى لفقت فيها الاتهامات للأبرياء، ولا عدد الضحايا الذين فقدوا حرياتهم أو حياتهم جراء ذلك. وفى الأجواء الراهنة فإن تحرير أمثال تلك الوقائع من الصعوبة بمكان، بحيث لم يعد بأيدينا سوى أن نستمر فى دق أجراس التنبيه والتحذير، ثم ننتظر معجزة من السماء تجبر خواطرنا وتريح ضمائرنا المعذبة.