فهمي هويدي
يبدو أن «الشامخ» لم ينقرض بعد. يدل على ذلك الحكم الحاسم الذى أصدرته محكمة القضاء الإدارى بخصوص حق مصر فى جزيرتى تيران وصنافير وبطلان التصرف فيهما. وهو ما يؤكد أن الصورة الباهتة التى رأيناها خلال الأشهر الماضية، والثقة التى اهتزت وأقلقتنا على مصير الحق والعدل فى مصر، كانت أحد أوجه الحقيقة وليست كلها. ورغم أن صدى الحكم فى دوائر السلطة ليس واضحا بعد، كما أن الحكومة طعنت فى القرار أمام المحكمة العليا، مع ذلك يظل الحكم التاريخى محتفظا بأهميته وشجاعته. صحيح أن الفضل فيما جرى يرجع للقضاة الأجلاء الذين اتخذوا القرار، وإلى المحامين، الذين اختاروا أن يواصلوا نضالهم بالقانون، إلا أنه ينبهنا إلى أن جذوة الأمل فى مصر لم تنطفئ بعد، وإن محاولات التجريف التى تمت ومشاعر اليأس والخوف التى خلفتها، لم تنجح فى وقف النبض أو إماتته. وهو ما يسوغ لى أن أقول إن آثار ثورة ٢٥ يناير لم تتم إزالتها بعد، وإن ما هو كامن فى أعماق مصر وضمائر أجيالها، رجالا ونساء، أفضل مما ظهر منه. وإن الذين يملأون الفضاء ضجيجا يلوث العقول والضمائر ليسوا سوى قشرة قبيحة زائفة تعجز عن الصمود أمام إشعاعات الأمل الواهنة، التى تطل علينا بين الحين والآخر من حيث لا نحتسب.
لى عدة ملاحظات على المشهد أوجزها فيما يلى:
< رغم أننا لا نعرف مصير الحكم، وهل سيتم تأييده أو نقضه. إلا أنه سيظل فى كل الأحوال محتفظا بقيمته الأدبية والسياسية، حتى إذا تم احتواء أثره القانونى بشكل أو بآخر.
< إن نقطة الضعف الأساسية فى موقف الحكومة من الناحية القانونية تكمن فى أنها لم تقدم وثيقة ذات وزن تثبت الرأى الذى تبنته فى خصوص الجزيرتين. لذلك لم يكن مستغربا تماما أن تنحاز المحكمة الإدارية إلى بطلان التصرف. ولأن القاعدة القانونية تقرر أن على من يدعى غير ظاهر الأمر أن يقيم الدليل على ادعائه، فإن انعدام الدليل لدى الحكومة المصرية جعلها تخسر القضية. باعتبار أن ظاهر الأمر جرى العمل عليه طوال العقود التى خلت إن الجزيرتين خاضعتان للسيادة المصرية.
< إن صدور الحكم لصالح سيادة مصر على الجزيرتين، يبطل بصورة تلقائية كل الإجراءات العقابية، التى اتخذت بحق الذين تظاهروا دفاعا عن السيادة سابقة الذكر.
< إننا إذ نرى فى صدور الحكم دليلا ساطعا على اتساع حرية التقدير في محيط القضاء وينبغي ان نعترف بان درجة الحرية اوسع لدي قضاة مجلس الدولة.
اية ذلك أن مجلس القضاء الأعلى حكم بفصل أكثر من ٦٠ قاضيا ممن اتهموا فى قضية بيان رابعة وقضاة من أجل مصر، فى حين أن مجلس الدولة كان له تكييف اخر بحق قضاة المجلس الذين اتهموا فى القضية ذاتها فاكتفي بتوجيه اللوم إليهم، وليس عزلهم، معتبرا أن ظهورهم فى وسائل الإعلام واقعة يمكن المؤاخذة عليها، وليست حالة تستحق العقاب التأديبى المتمثل فى العزل.
< إن ما جرى ينبهنا إلى أن إجراءات السلطة وقراراتها لا تولى الاعتبار القانونى الأهمية التى يستحقها. فضلا عن أنها تتصرف فى أحيان كثيرة باعتبار أنها ضامنة للغطاء القانونى ومطمئنة إلى أنه يتجاوب معها طول الوقت. يؤيد ذلك أن أكثر محاكمات وتحقيقات القضايا السياسية تتم إما فى أكاديمية الشرطة أو معهد أمناء الشرطة أو معسكرات الأمن المركزى. لكن محكمة النقض حين طلب منها أن نعقد جلساتها فى أكاديمية الشرطة فإنها رفضت ذلك استنادا إلى أن المعهد يتبع وزارة الداخلية، ولا يصلح لأن يكون محكمة مستقلة تتوفر لها اعتبارات العدالة والنزاهة. وهو موقف يؤدى فى النهاية إلى إبطال أغلب إن لم يكن كل الأحكام التى صدرت فى الأماكن التابعة لوزارة الداخلية، إذا طعن فيها أمام النقض.
< إن ما جرى فى موضوع الجزيرتين كان إجراء سياسيا لم تتوفر له الدراسة القانونية الكافية السابقة على القرار. وهو ما يثير تساؤلات كثيرة حول الكثير من المشروعات الكبيرة المهمة التى اتخذت وما إذا كانت قد استوفت حقها فى الدراسة أم لا.
أخيرا فإننا نتمنى على الجميع أن يتصرفوا بمسئولية فى التعامل مع الحدث. إذ ليس هذا وقت الشماتة أو المعايرة، ولكنه وقت التكاتف والتضامن ليس فقط لتفعيل قرار المحكمة، ولكن أيضا للدفاع عن استقلال القضاة والقضاء والحفاظ على المكانة التى استرجعوها فى سجل التاريخ.