فهمي هويدي
انكسر نحس شهر يونيو، حتى إشعار آخر على الأقل. إذ يحق لنا الآن أن نقول إننا لم نعش فيه الهزيمة العسكرية أمام إسرائيل فى اليومين الخامس والسادس عام ١٩٦٧. والهزيمة السياسية أمامها حين صوت مصر لصالح رئاستها لإحدى لجان الأمم المتحدة فى اليوم الرابع عشر منه عام ٢٠١٦. ولكن لنا أن نذكر أيضا أن حكما قضائيا صدر ببطلان التوقيع على اتفاقية التنازل عن جزيرتى تيران وصنافير وتأكد السيادة المصرية عليهما.
من حيث الشكل قد يبدو أن ثمة بونا شاسعا بين الهزيمتين المذكورتين وبين اتفاقية الجزيرتين، لكن من يلاحظ بهجة المصريين بالحكم ويضع فى الاعتبار أجواء الزمن الذى عزت فيه الفرحة وخيم الإحباط والتشاؤم حتى بدا لنا المستقبل معتما ومسدودا، فإنه ربما تسامح فى إجراء المقارنة واختصار المسافة بين الحالتين.
قد لا أبالغ إذا قلت إن ابتسامة عريضة ارتسمت على وجه مصر طوال يوم الاثنين ٢٠ يونيو، الذى ذاع فيه الخبر. ذلك أننى ما تلقيت اتصالا هاتفيا من داخل مصر أو خارجها فى صبيحة ذلك اليوم إلا وبدأ المتحدث كلامه بالتهنئة والتعبير عن الفرحة. وهو ما صادفته فى الشارع ووقعت عليه فى تغريدات مواقع التواصل الاجتماعى. ووجدته فى صورة حفاوة موكب السيارات التى خرجت إلى الطريق الصحراوى بين القاهرة والإسكندرية معبرة عن الفرحة، وبدا الموكب مشابها للطقوس التى تحدث فى حفلات العرس، حين يخرج الأهل الفرحون إلى الشوارع مبشرين بالخبر السعيد.
ما كان جديرا بالملاحظة ليس فقط حجم الفرحة الغامرة، ولكن أيضا طبيعة وهويات المشاركين فيها، الذين كانوا من مختلف فئات المجتمع، إذ تراوحوا بين أصحاب السيارات والباعة الجائلين، والنشطاء وبسطاء الناس الذين ضغط عليهم الحر والغلاء مع الصوم. حتى غدوا فى شوق إلى ما يرطب جوانحهم ويرفع معنوياتهم. أما أسخف ما قيل فى هذا الصدد هو أن للإخوان دورا فى إشاعة هذه الأصداء. ليس فقط لأنه غير صحيح، ولكن أيضا لأنه يمتدح نفوذ الإخوان بصورة غير مباشرة فضلاً عن أنه يتجاهل مشاعر الوطنيين، والناس العاديين، الذين لا هم إخوان ولا عسكر كما يُقال.
كعادة المصريين، فإن موروثهم التاريخى يستكثر عليهم الفرحة، حتى إذا ما استسلموا للضحك فإنهم اعتادوا أن يتوجسوا من المستقبل، فيلملموا شفاههم ويخفون ابتساماتهم قائلين: اللهم اجعله خيرا، وهو ما حدث فى المشهد الذى نحن بصدده، ذلك أن بعض التعليقات سجلت الفرحة حقا، لكنها حذرت مما هو قادم. ولمحت فى بعضها نزوعا إلى التشاؤم وإساءة الظن بردود أفعال السلطة، التى سبق لها إلقاء القبض على الذين تظاهروا احتجاجا على التنازل عن الجزيرتين، فمنهم من حوكم وسجن ومنهم من وقعت عليهم غرامات بواقع مائة ألف جنيه لكل واحد، ومنهم من جرى التنكيل به، ومنهم من ينتظر.
ذلك كله لا يغير من الحقيقة الناصعة والأهم التى برزت خلال اليومين الماضيين، وهى أن ردود أفعال الشارع المصرى كانت بمثابة استفتاء شعبى أيد بشدة بقاء الجزيرتين تحت السيادة المصرية، ورفض بذات القدر اتفاقية التنازل عنهما.
هذه النقطة عالجها المستشار ماجد شبيطة، نائب رئيس مجلس الدولة، فى مؤلفه «سلطات رئيس الجمهورية فى الدساتير المصرية» الذى صدر فى العام الحالى، وكان موضوع رسالته للدكتوراه، ففى الفصل الخاص بسلطات الرئيس بخصوص المتعلق بإبرام المعاهدات، أجرى مقارنة بين الدستور الصادر فى عام ١٩٧١ ودستور ٢٠١٢ والتعديل الذى أجرى عليه فى عام ٢٠١٤. فذكر أن الأول تحدث عن حقوق السيادة التى تقتضى تعديلاً فى أراضى الدولة. وهو ما حذف فى دستور ٢٠١٢ الذى نص فى مادته الأولى على أن مصر دولة موحدة ذات سيادة، لا تقبل التجزئة بأى حال.. ولا يجوز إقرار أى معاهدة تخالف أحكام الدستور. كما نص فى المادة ١٤٥ منه على وجوب موافقة المجلسين (النواب والشورى) بأغلبية ثلثى الأعضاء على جميع المعاهدات المتعلقة بحقوق السيادة. أما فى دستور ٢٠١٤ فقد نصت المادة ١٥١ منه على عدم جواز إبرام أية معاهدة تخالف أحكام الدستور، أو يترتب عليها التنازل عن أى جزء من إقليم الدولة. وبالنسبة للمعاهدات المتعلقة بالصلح وبحقوق السيادة فإنه اكتفى بموافقة مجلس النواب بأغلبية عادية مع الاستفتاء الشعبى. ورأى الباحث الدكتور ماجد شبيطة أن اشتراط موافقة أغلبية الثلثين فى دستور ٢٠١٢ وفرت ظرفا أفضل لتمحيص الاتفاقيات. فى حين أن دستور ٢٠١٤ اشترط موافقة الأغلبية العادية (وليس أغلبية الثلثين) واعتبر أن الاستفتاء سيظل رمزيا لأنه لا يوفر فرصة كافية لتمحيص الاتفاقيات والتدقيق فى بنودها.
النقطة المهمة فى الدستورين تتمثل فى حظر التنازل عن أى جزء من أرض الوطن، والتشدد فى إجازة الاتفاقيات التى تتعلق بأعمال السيادة. سواء باشتراط موافقة ثلثى المجلسين فى دستور ٢٠١٢ أو موافقة أغلبية البرلمان مع الاستفتاء الشعبى فى دستور ٢٠١٤. فى هذا الصدد أزعم أن نتيجة الاستفتاء أعلنت على الملأ فى مصر، أمس، ولا أعرف ماذا سيكون رأى مجلس الشعب، لكننى أزعم أننا سندخل فى دوامة خلاف قانونى قد تحسمه السياسة فى نهاية المطاف.