فهمي هويدي
حدث خلاف بين رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس جهاز المخابرات فى السلطة الفلسطينية. انتهى باستقالة الأول بعدما أمضى عشرة أشهر فقط من تعيينه فى منصبه، رئيس مجلس القضاء سامى صرصور اتهم رئيس المخابرات اللواء توفيق الطيراوى بالتدخل فى شئون القضاء والاعتداء على استقلاله، فى حين أن الطيراوى نسب إلى السيد صرصور أنه قام بتعديل مراسيم رئاسية بعد صدورها بالمخالفة للقوانين المعمول بها. وهى اتهامات أدانها المجلس الأعلى للقضاء واعتبرها إساءة إلى هيبة القضاء ومساسا باختصاصات السلطة القضائية. إلى هنا والسجال كان مفهوما فى أجواء العالم العربى، ذلك أنه حين يختلف أى مسئول مهما علا مقامه مع رئيس المخابرات ويتعذر التفاهم أو إصلاح ذات البين بينهما، فإن الذى يغادر هو المسئول فى حين يظل رئيس المخابرات من «الثوابت»، طالما كان مرضيا عنه من الرئيس الأعلى.
المستشار سامى صرصور شغل فى السابق مناصب قضائية رفيعة، منها أنه كان نائب رئيس المحكمة العليا، ثم أصبح نائبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى، قبل أن يصدر مرسوم بتعيينه رئيسا لمجلس القضاء الأعلى فى شهر يناير الماضى. وفى دفاعه عن نفسه قال إننا طوال ١٥ عاما كنا نأمل بالإصلاح وقطعنا شوطا فى الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، لكن ما حدث أخيرا أعاد الأمور إلى نقطة الصفر. وانتقد موقف رئيس السلطة التنفيذية السيد محمود عباس قائلا إن تدخله لإقالة أو قبول استقالة رئيس المجلس الأعلى للقضاء إجراء غير قانونى. إذ إن المسار الطبيعى يقضى بأن يقدم القاضى استقالته إلى المجلس الأعلى للقضاء، الذى يناقشها بدوره ثم يحيلها لوزير العدل. وليس من صلاحية رئيس السلطة التنفيذية أن يصدر قرارا فى هذا الشأن.
استطرد صاحبنا قائلا: عندما تم تعيينى رئيسا لمجلس القضاء الأعلى أكدوا لى أن الأمر تكليف وليس تشريفا، وطلبوا منى التوقيع على كتاب استقالة غير مؤرخ، وهو ذات الكتاب الذى تم تفعيله أخيرا لإزاحتى عن المنصب، ذكر ذلك لكى يؤكد أنه لم يستقل ولكن تمت إقالته، للإتيان بأشخاص آخرين للمجلس الأعلى للقضاء «لكى يكونوا أكثر انسجاما مع النافذين فى السلطة».
هذه الخلفية كانت مفاجئة للجميع. حيث لم يخطر على بال أحد أن يكون رئيس مجلس القضاء الأعلى بجلالة قدره قد وقع عند تعيينه فى منصبه الرفيع على كتاب استقالته. وإذا كان ذلك قد حدث مع أكبر قاضٍ فى السلطة. فلنا أن نتصور حدوثه. أو ما هو أكثر منه مع من دونه من القضاة. ثم أن ذلك يفسر كيف أن القضاء استخدم فى التلاعب بالانتخابات البلدية التى كان مقررا إجراؤها فى الأرض المحتلة يوم ٨ أكتوبر الحالى. ذلك أن محكمة العدل العليا أصدرت حكما باستثناء غزة من تلك الانتخابات، بدعوى عدم شرعيتها. وكان ذلك قرارا سياسيا من أصداء التجاذبات والمماحكات بين قيادة السلطة فى رام الله وبين الوضع القائم فى غزة الذى تديره حركة حماس. ثم انتهى الأمر بتأجيل الانتخابات كلها لمدة أربعة أشهر، بسبب خشية سلطة رام الله من فوز حماس فى بلديات الضفة الغربية.
حين أقيل السيد صرصور من منصبه فإنه اعتبر القرار عدوانا على استقلال القضاء ومساسا بهيبته، وتغولا غير مشروع من جانب السلطة التنفيذية. لكنه لم ير شيئا من ذلك حين وافق عند تعيينه على التوقيع على كتاب غير مؤرخ باستقالته. ورغم أنه نفذ للسلطة ما أرادت (فى انتخابات البلديات مثلا)، هو والجهاز القضائى الذى يعمل معه، فإن ذلك لم يشفع له، وألقى به إلى عرض الطريق حين اختلف مع رئيس جهاز المخابرات. وهى قصة محزنة تسلط الضوء على الدور الحقيقى للقضاء فى أى نظام غير ديمقراطى، خلاصة درسها الأهم الذى كثيرا ما ننسى أنه لا مكان لقضاء مستقل فى مجتمع يحكمه الأمن.