فهمي هويدي
ثمة جديد فى قصة الفلسطينيين الأربعة الذين اختطفوا فى الأراضى المصرية قبل عام بعد اجتيازهم معبر رفح. إذ تم تسريب صورة بثتها قناة «الجزيرة» يوم الاثنين الماضى (٢٢/ ٨) ظهر فيها اثنان منهم ضمن آخرين فى أحد المقار الأمنية. وذكرت التقارير التى خرجت من غزة مساء اليوم ذاته أن الاثنين هما ياسر زنون وعبدالدايم أبو لبدة. ورغم أن السلطات المصرية التزمت الصمت إزاء الموضوع خلال الأربع وعشرين ساعة التى اعقبت بث الخبر والصورة، إلا أن ذلك التطور يعيد فتح الملف من جديد. وإذا ثبتت صحة المعلومة فإنها تشير إلى أمرين، أولهما أن أولئك الشبان لايزالون على قيد الحياة، والثانى أنهم فى أيدى السلطات المصرية. على الأقل فذلك أصبح مرجحا بالنسبة للاثنين اللذين ظهرا فى الصورة.
أغلب الظن أنها مجرد مصادفة، أن يختفى الأربعة يوم ١٥ أغسطس عام ٢٠١٥، ثم يظهر اثنان منهم فى الصورة يوم ٢٢ أغسطس من العام التالى، ورغم أن القصة نسيت فى الذاكرة المصرية، إلا أن الموضوع ظل حيا وبقوة فى الشارع الفلسطينى، وفى غزة بوجه أخص. ليس فقط لأنها السابقة الأولى من نوعها التى تحدث على الأراضى المصرية، ولكن أيضا لأن أهالى المخطوفين بعشائرهم وقبائلهم إضافة إلى منظمات المقاومة لم يصادفوا بابا للتعرف على مصير الأربعة إلا وطرقوه. وفى حدود علمى فإن الموضوع ظل مدرجا على جدول أعمال المحادثات الفلسطينية التى جرت مع الجهات المختصة فى القاهرة على مدار العام. وهى الجهود التى ابقت على الموضوع حيا فى المجال العام، لكنها لم تنجح فى فض ألغازه التى بدت محيرة ومقلقة لكل العابرين الفلسطينيين على الأقل.
خلاصة القصة المثيرة أنه فى يوم الأربعاء ١٩ أغسطس من العام الماضى سمح لحافلتين تكدس فيهما الركاب القادمون من القطاع باجتياز معبر رفح. وكان الأربعة بينهم، حيث كان مقررا أن يتوجهوا من مطار القاهرة إلى تركيا، بعضهم للدراسة والبعض الآخر للعلاج. حسب شهادة الشهود فقد أثار انتباههم تأخير عبور الحافلتين إلى ما بعد موعد حظر التجوال بساعتين. كما أثار دهشتهم أن الحافلة التى كان الأربعة بين ركابها لم يصحبها أحد من رجال الأمن الذين اعتادوا مرافقة المسافرين. كما لم يظهر مندوب السفارة الذى جرى العرف على وجوده فى مثل تلك الحالة. الشاهد أنه بعد العبور، وعلى بعد ٢٠٠ متر من البوابة التى دخلوا منها إلى الأراضى المصرية سمع الركاب صوت إطلاق الرصاص نحو الحافلة، مع أمر لسائقها بالتوقف. وحين حدث ذلك صعد أربعة أشخاص إلى الحافلة، ثلاثة ملثمون ورابعهم مكشوف الوجه. وكان واضحا أنهم يعرفون الأربعة، لأنهم ظلوا يتفرسون فى الوجوه ثم يخرجونهم واحدا تلو الآخر. من النافذة رآهم الركاب وهم يأمرونهم بخلع ثيابهم، ثم ينهالون عليهم بالضرب ــ الذى كان لسائق الحالفة منه نصيب ــ وبعد ذلك ابتلعهم الظلام، وسمح للحافلة بمواصلة الرحلة إلى القاهرة.
إزاء الغموض الذى اكتنف العملية، فإن استنتاجات عدة حول مصيرهم ترددت آنذاك. فمن قائل إن الإسرائيليين يمكن أن يكونوا وراءها. خصوصا أن الأربعة ينتمون إلى حركة حماس. ورشحت «داعش» لتكون احتمالا آخر، لأن حماس اعتقلت عددا منهم فى غزة، وبدا واردا أن يكون اختطاف الأربعة إما ردا على ذلك أو وسيلة للضغط والمقايضة. وتحدث البعض عن أن يكون للأمر علاقة بالثأر والتصفيات القبلية فى المنطقة. ولم يكن قيام السلطات المصرية باختطاف الأربعة مستبعدا، خصوصا فى ظل بعض القرائن التى دلت على أنه مرتب سلفا كما سبقت الإشارة. وظلت تلك مجرد تخمينات وتكهنات تدعمها قرائن ولا دليل قطعيا يؤيد أيا منها.
الصورة التى ظهرت هذا الأسبوع حسمت الأمر، حيث ينطبق عليها المثل العربى الشائع «قطعت جهيزة قول كل خطيب». الأمر الذى يسوغ للبعض القول بأن الصورة قامت مقام الأَمَة «جهيزة» التى نقلت الخبر إلى الجمع فى القصة الشهيرة. سألنى فى الموضوع أحد الصحفيين من غزة مساء اليوم ذاته فقلت إن الأمر إذا كان مرجحا فينبغى أن يخضع للتبين أولا، حتى يمكن القطع بأن اللذين ظهرا فى الصورة وسط جمع من المحتجزين هما بالفعل ياسر وعبدالدايم. ولا سبيل إلى التحقق من ذلك إلا من خلال السلطات الأمنية المصرية. وإلى أن يتم التثبت والتبين فإن القضية ينبغى التعامل معها بهدوء. بعيدا عن الضجيج والإثارة التى يجيدها الإعلام. وفى كل الأحوال فينبغى أن يظل الهدف هو التفهم والتفاهم وليس التصعيد وتعميق التوتر القائم بالفعل بين حماس والقاهرة. إذ إن الأعين ينبغى أن تظل مصوبة نحو مستقبل العلاقات بين الطرفين. وفى كل الأحوال فإن من حق الطرف الفلسطينى أن يطمئن على مصير الاثنين الآخرين، كما لا ينكر حقه فى أن يعرف حقيقة ما هو منسوب إليهما وأن يوفر للأربعة الضمانات القانونية اللازمة لحمايتهم.
إذا اعتبر الفلسطينيون ظهور الاثنين مفاجأة، فإن القصة تفقد عنصر المفاجأة بالنسبة للمواطن المصرى. ذلك أنه فى أجواء التدهور الأمنى الراهنة تعددت حالات اختفاء الأشخاص حينا من الدهر، ثم ظهورهم فجأة أثناء التحقيقات أو اكتشاف وجودهم مصادفة أثناء زيارات بعض المحامين. ومما يؤسف له أن يصبح ذلك خبرا عاديا، تطغى فيه مشاعر الفرحة لظهورهم على رصيد اللوعة والأسى المتراكم طوال غيابهم.
حين صاحت أم الإيطالى جوليو ريجينى غاضبة بعدما رأت جثته وقالت إن ابنها القتيل عذب كما لو كان مصريا، فإن الرسالة كانت مخزية ومفجعة، إلا أنها صارت مثلا، الأمر الذى يدعونا إلى مناشدة السلطات المصرية ألا تكون قد تعاملت مع المخطوفين الأربعة كما لو كانوا مصريين. وإذا ما ثبتت صحة القصة التى نحن بصددها فإن مسئول الداخلية الذى نفى وجود شىء اسمه الاختفاء القسرى فى مصر، يصبح مطالبا بأن يدلى بدلوه فى الموضوع.