توقيت القاهرة المحلي 18:25:53 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عن المخاصمة لا المصالحة

  مصر اليوم -

عن المخاصمة لا المصالحة

بقلم فهمي هويدي

أدعو إلى تأجيل الحديث عن المصالحة فى مصر، والانشغال بملف المخاصمة الذى بات أكثر إلحاحا.

(١)

ممكن نتصالح مع الإخوانى إذا لم تلوث يده بالدماء، فهو مواطن فى النهاية ما دام لم ينسب إليه أى فعل إجرامى. لماذا إذن لا نتصالح معه ليدخل ضمن نسيج الشعب المصرى. هذه الكلمات الثلاثون وردت فى سياق حوار أجرته جريدة «اليوم السابع» يوم ١١ يونيو الحالى مع المستشار مجدى العجاتى وزير الدولة للشئون القانونية. ورغم أن الحوار كان موضوعه العدالة الانتقالية، وتطرق إلى أمور أخرى عديدة، إلا أن أغلب الذين قرأوه وكل الذين علقوا عليه لم تستوقفهم فيه سوى تلك العبارة. ذلك أنه ما إن نشر وظهر على موقع الجريدة حتى تعالت أصوات البعض رافضة ومنددة ومشككة فى دوافع إطلاق الكلام، ومتسائلة عما إذا كان بمثابة جس نبض أو فرقعة مقصودة للاختبار، أم أنه تمهيد لصفقة قادمة فى الطريق. وزايدت على الجميع كتائب الإبادة، فمن قائل إنهم لم يعودوا جديرين بالبقاء على أرض مصر، وداعٍ إلى قطع لسان كل من حاول فتح الموضوع. ولم يقصر وزير الأوقاف فى المزايدة فأفتى بأن الكشف عن تلك العناصر الخبيثة «واجب شرعى».. إلخ.

رغم أنه ليس معروفا ما إذا كان ما صدر عن الوزير العجاتى كان رسالة مقصودة أم زلة لسان، أم أنه كان مجرد إجابة على سؤال برىء وجهه إليه الصحفى، إلا أن الذى لا خلاف عليه أن ما قاله وزير الشئون القانونية أحدث زوبعة لا تزال أصداؤها تتفاعل فى وسائل الإعلام، رغم مضى أسبوعين أو أكثر على نشر كلامه.

كان اقتناعى ولا يزال أن موضوع المصالحة ليس مطروحا للبحث فى الساحة المصرية الآن، فيما هو ظاهر على الأقل. ورغم أن الدعوة إلى المصالحة الوطنية طرحت خارطة الطريق التى أعلنتها قيادة القوات المسلحة فى الثالث من يوليو عام ٢٠١٣. إلا أن الأمر ظل مؤجلا طول الوقت. وبات واضحا أن شروط المصالحة غير متوفرة، وأولها الإرادة السياسية، لذلك فلعلى لا أبالغ إذا قلت إن ما يُثار هذه الأيام بخصوص الموضوع يظل من قبيل الثرثرة السياسية التى تثير الجدل واللغط، فتضيع الوقت وتستهلك الجهد بغير طائل. لذلك تمنيت أن نؤجل مناقشة الموضوع لظرف آخر تكون قد نضجت فيه فكرة المصالحة التى بغيرها لن يتوقف الاحتقان ولن يعرف الوطن الاستقرار. وقد سبق أن دعوت إليها وتمنيتها، ورجوت أن تشمل مختلف فئات المجتمع وقواه السياسية وليس جماعة بذاتها. وكان رأيى فى ذلك أن توسيع دائرة المصالحة لتشمل مختلف فئات المجتمع ومنظماته المدنية أمر محل إجماع، أما حصرها فى محيط الإخوان دون غيرهم فقد يكون موضوعا خلافيا لا ينعقد حوله الإجماع المنشود.

(٢)

إذا كان تأجيل الحديث عن المصالحة نظرا لعدم توفر شروطها مبررا، فإن فتح ملف المخاصمة يبدو ملحا ولا يحتمل التأجيل. والمخاصمة التى أعنيها تتمثل فى موقف النظام وأجهزته إزاء المعارضين، الذى لا يطالب فيه النظام بأى تنازل، فضلا عن أنه لا يتطلب إجراء أى حوار مع المعارضين إخوانا كانوا أم غير إخوان. وغاية ما يطالب به النظام أن يدعو أجهزته إلى احترام إنسانية المعارضين، من خلال الالتزام بمبادئ العدل واحترام القانون. وذلك يحتاج إلى قرار سياسى، لأن اللدد فى الخصومة أو التنكيل بالمعارضين ليس هواية يمارسها البعض ولكنه أيضا سياسة مقررة. إذا لم تكن تنفذ بتعليمات فالقدر المتيقن أنه يمكن حظرها بتعليمات. وإذا جاز لنا أن نتصارح أكثر فإننا لا نستطيع أن ننكر أن المخاصمة فى بلادنا تفتح الباب واسعا لاستباحة الآخر بما يؤدى إلى تجريده من حقوقه وإنسانيته. من حقه فى الكرامة إلى حقه فى الحياة. والآخر المستباح فى هذه الحالة ليس المعارضين فقط، لكنهم أيضا النشطاء المستقلون وكل من لا يشمله الرضى. صحيح أن ثمة إنكارا تاما لذلك من جانب وزارة الداخلية، إلا أن وثائق المنظمات الحقوقية المستقلة فى مصر وكذلك المنظمات الدولية المحايدة، توثق تلك الاستباحة بما لا حصر له من الشهادات والوقائع. الذى لا يقل عن ذلك أهمية أن مواقع التواصل الاجتماعى فى مصر تحفل بما لا حصر له من البيانات والمعلومات التى تؤكد تلك الاستباحة بتجلياتها المختلفة، من وقائع التعذيب والحبس الانفرادى، والحرمان من الغذاء والدواء حملات التنديد بالاختفاء القسرى فضلا عن استغاثات المرتهنين للتحقيق لآجال مفتوحة، دون أن يساءلوا أو يعرفوا حقيقة المنسوب إليهم أو تلوح لهم بادرة أمل فى المستقبل.

التنكيل حاصل أيضا بالنشطاء والمعارضين خارج السجون، حتى كان مثيرا للدهشة أن تمارس الضغوط وتُثار الشبهات حول المنظمات التى ترفض التعذيب وتدافع عن الديمقراطية. فقد أحيل إلى التحقيق المحامى الحقوقى نجاد البرعى واثنان من القضاء لأنهما أعدا مشروعا لمكافحة التعذيب، وصدر قرار بإغلاق مركز النديم لعلاج ضحايا التعذيب، وتم التحفظ على أموال أحمد سميح فراج مدير مركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف. وسجن الباحث هشام جعفر منذ سبعة أشهر لرئاسته مؤسسة للتنمية والدفاع عن المسار الديمقراطى.
لم يسلم من التنكيل المتظاهرون السلميون الذين باتوا يحالون إلى القضاء العسكرى أو تفرض عليهم غرامات باهظة، أما الذين يدونون آراءهم النافذة ويعبرون عن مشاعرهم على صفحاتهم الخاصة فإنهم يتعرضون للمنع من السفر، وأحيانا إلى الفصل من الوظيفة ومصادرة الأموال الخاصة، وربما أفضى ذلك إلى التشهير بهم وتدميرهم أدبيا وسياسيا.


(٣)

خلاصة الكلام أن غير المرضى عنه أو المعارض لا حماية له ولا كرامة. من ثم فكل ما هو مطلوب أن تحترم كرامة وإنسانية صاحب الرأى المخالف طالما أنه يعبر عن موقفه أو يتصرف فى حدود القانون. ولا يستطيع المرء أن يخفى شعوره بالحزن والأسف حين يسمع من المحامين أنهم لم يعودوا يتطلعون إلى إطلاق سراح الأبرياء ولكنهم أصبحوا يتمنون لهم معاملة إنسانية فى محبسهم وتحقيقا نزيها يحفظ لهم كرامتهم. وحتى إذا قضت المحاكم بسجنهم فإن ذلك لا ينبغى أن يجردهم من إنسانيتهم.
فى الأسبوع الأول من شهر يونيو الحالى صدر قرار بحبس المستشار هشام جنينة، رئيس جهاز المحاسبات السابق، حين رفض دفع الكفالة التى قررتها نيابة أمن الدولة، وحين نقلته مدرعة إلى قسم الشرطة لينفذ الحبس فإن المأمور أودعه غرفة مناسبة (كانت مكيفة الهواء) ليقضى فيها ليلته، وبعد ساعات من بقائه بالغرفة جاءه فى منتصف الليل من طلب منه الانتقال إلى غرفة أخرى ليس فيها سوى بلاط عار ودورة مياه غارقة فى الفضلات، ولم يكن بحاجة إلى من يبلغه بأن ذلك تم بناء على تعليمات من خارج قسم الشرطة. ثم كانت المفاجأة أنه بعد أيام من إطلاق سراحه ودفع الكفالة، صدر قرار بفصل ابنته شروق من وظيفتها بالنيابة الإدارية بغير الطريق التأديبى. وحين لم يذكر السبب فلم يكن هناك من تفسير لذلك سوى أنه من توابع عقاب الأب الذى تحدث عن الفساد فحوكم هو ولم يحاكم الفاسدون!
فى واقعة أخرى أصدرت محكمة جنايات الجيزة فى ١٨/٦ حكمها فى القضية التى عرفت إعلاميا بالتخابر مع قطر وقضت بحبس الدكتور محمد مرسى رئيس الجمهورية الأسبق بالسجن ٤٠ عاما فى اتهامه بقيادة جماعة محظورة على خلاف القانون واختلاس مستندات ووثائق. وبرأته المحكمة مع آخرين من تهمة الحصول على مستندات بغرض تسليمها إلى جهات أجنبية، وقد أبدى غيرى رأيه فى مفارقات الأحكام التى صدرت، لكن أكثر ما أثار انتباهى أن وسائل الإعلام أغفلت أو أخفت خبر تبرئته من تهمة التخابر باستثناء صحيفة «المصرى اليوم» التى أشارت إليها، ورغم براءته من التهمة ظلت تعليقات البعض مصرة على إدانته فيها، فدأبت على وصفه بالرئيس الجاسوس والخائن فى تشفٍ مستهجن، وادعى أحدهم أنه عاش خائنا، وسيموت كافرا هكذا مرة واحدة.

(٤)

لدىّ أربع كلمات فى التعليق على ما سبق هى:

< الأولى أن ما يجرى من تنكيل واستباحة للناقدين أو المعارضين يحسب على النظام والسلطة بكل رموزها ومراتب قياداتها، حتى إذا لم تأمر به أو لم تعلم به. ذلك أن الذين يمارسون تلك الانتهاكات إن لم يكونوا ينفذون رغبات أو توجيهات، فهم على الأقل يتصرفون على نحو يطمئنون به إلى أنه يرضى قياداتهم. وقد أسلفت أننا إذا افترضنا أن الانتهاكات تتم بغير تعليمات، إلا أن الثابت أنه يمكن إيقافها بتعليمات صريحة وحازمة، وفى كل الأحوال فإن التعذيب والتنكيل يظل جريمة دولة ــ كما قيل بحق ــ وليس جريمة أفراد أو أجهزة.

< الثانية إننى أستغرب كثيرا أن يتم التنكيل بالمحبوسين أو أهاليهم أو غيرهم من الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، سواء فى رد الأذى أو بتفنيد الاتهام. وهو ما يهتك أبسط مبادئ العدل والإنسانية. لا أتحدث عن النخوة والمروءة والشهامة وغير ذلك من الشمائل التى يعتز بها العرب، فنحن أبعد ما نكون عن كل ذلك. وإنما أتحدث فقط عن الحد الأدنى من الإنسانية والكرامة.

< الكلمة الثالثة تتعلق بما يبدو أنه دفاع من جانبى عن المظلومين الذين تستباح كراماتهم، فذلك صحيح نسبيا، وهو ما أتشرف به. إلا أنه أيضا دفاع عن قيم المجتمع التى إذا سكتنا على استمرار انتهاكها فلن يسلم من التنكيل كل واحد منا يوما ما. وسنندم جميعا حينذاك لأننا سكتنا. إذ سينطبق علينا حينذاك قول من قال: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.

< الكلمة الرابعة ليست لى، ولكنها مأثورة عن الحسن البصرى أفقه أهل زمانه، إذ قال أحبوا هونا وأبغضوا هونا، فقد أفرط قوم فى حب قوم فهلكوا، وأفرط قوم فى بغض قوم فهلكوا. وهو مصير نسأل الله أن ينجينا منه فى الدنيا والآخرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن المخاصمة لا المصالحة عن المخاصمة لا المصالحة



GMT 12:48 2016 الأحد ,11 كانون الأول / ديسمبر

بشرى للاعبين المحليين

GMT 14:24 2016 الجمعة ,09 كانون الأول / ديسمبر

هل الكتابة خدعة؟

GMT 14:23 2016 الأربعاء ,07 كانون الأول / ديسمبر

أحرجتنا ماليزيا

GMT 11:38 2016 الثلاثاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

الإصلاح السياسى مقدم على الإصلاح الدينى

GMT 12:04 2016 الخميس ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

التغريبة الثالثة

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024
  مصر اليوم - المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 08:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 07:41 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه
  مصر اليوم - ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات
  مصر اليوم - ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 08:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية

GMT 03:29 2020 السبت ,14 آذار/ مارس

بورصة تونس تغلق التعاملات على انخفاض

GMT 14:03 2020 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أول تعليق من محمد منير بعد وفاة مدير أعماله وزوج شقيقته

GMT 06:49 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

عزل ترامب
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon