بقلم فهمي هويدي
حين نقرأ أن «لقاء سلام» عقد بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر فإن ذلك يريحنا لأول وهلة. إلا أنه لا يمنعنا من التساؤل عن ماهية العراك أو الخلاف الذى كان بين الرجلين واستدعى عقد اللقاء لطى صفحته. وحين نكتشف أن ذلك العراك أو الخلاف لم يكن قائما، فإن ذلك يحثنا على تحرى الأسباب التى دفعت الإمام الأكبر للقيام بالزيارة التى وصفت بأنها تاريخية. فى هذا الصدد وجدت أن الفاتيكان أصدر بيانا عن اللقاء ذكر أنه تم فى إطار الحوار بين الكنيسة الكاثوليكية والإسلام. وأشار إلى أن الطرفين بحثا بشكل خاص السلام فى العالم ونبذ الإرهاب ووضع المسيحيين فى إطار النزاعات والتوتر فى الشرق الأوسط. أضافت وكالة الأنباء الإيطالية قولها أن الزيارة خطوة مهمة للعمل معا من أجل تحقيق السلام فى العالم (الوكالات الأخرى ذكرت أنهما اتفقا على عقد مؤتمر عالمى للسلام) . وما استوقفنى فى أصداء الزيارة أن مجلة «ريفستا أفريكا» ذكرت أن زيارة شيخ الأزهر للفاتيكان لا تنطوى على دوافع سياسية، وقد استوقفتنى العبارة الأخيرة لأننى سبق أن قرأتها نصا فى أصداء زيارة البطريرك تواضروس الثانى لإثيوبيا فى شهر أكتوبر من العام الماضى (٢٠١٥) وأثير آنذاك السؤال عما إذا كانت الزيارة رعوية أم سياسية، وسألت إحدى الصحف عما إذا كانت من أجل المياه أم الصليب. ذكرت التعليقات أنها استهدفت استثمار العلاقات التاريخية بين الكنيسة المصرية والإثيوبية، لمحاولة التأثير على موقف حكومة أديس أبابا المتعنت فى ملف سد النهضة. ونقلت صحيفة «أخبار اليوم» فى عدد ٢٦ سبتمبر ٢٠١٥ عن بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية قوله فى أديس أبابا أن مياه النيل عطية من الله ولا يجوز أن تصبح موضع خلاف على الإطلاق. مضيفا أنه لا توجد تكليفات محددة من القيادة السياسية فى مصر بخصوص ملف مياه النيل، «ولكن الإحساس الوطنى وعلاقة الكنيستين يدفعانه لإيجاد حالة من التوافق بين البلدين بخصوص سد النهضة».
بعد عودته ذكر البابا تواضروس فى مداخلة هاتفية مع برنامج «هنا العاصمة» التليفزيونى أن زيارته لإثيوبيا كانت روحية بالدرجة الأولى، مضيفا أنه عقد عدة لقاءات هناك مع رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ووزير الدولة للشئون الخارجية. وحين أثير موضوع سد النهضة خلالها، فإنه طلب منهم الاستعانة بخبراء للتأكد من عدم تأثير السد على مصر.
هذه الخلفية تدعونا إلى التساؤل عما إذا كانت لزيارة شيخ الأزهر للفاتيكان علاقة بمحاولة ترطيب الأجواء بين إيطاليا ومصر، بعد التوتر الذى شابها بسبب أزمة الباحث الإيطالى جوليو ريجينى؟ ــ ليست لدى إجابة عن السؤال، لكننى أعلم أن السياق يستدعيه خصوصا أن السعى المفترض له ما يبرره كما أن له مشروعيته. يشجعنا على طرح السؤال أن حكاية العمل من أجل السلام وعقد مؤتمر عالمى لتحقيقه ليس فيها جديد. كما أن نبذ العنف والإرهاب لا يتطلب ترتيب لقاء بين رئيس الكنيسة الكاثوليكية وشيخ الأزهر، علما بأن الفاتيكان له دوره التاريخى فى رعاية الإرهاب الذى مارسته محاكم التفتيش البابوية التى تأسست فى القرون الوسطى وكان المسلمون الإسبان من ضحاياها فى القرن السادس عشر. وتلك صفحة طويت ونسيت.
فى هذا الصدد فإننى لست واثقا من أن العنف والإرهاب الذى تحدث عنه البيان يشمل ما يتعرض له الفلسطينيون فى الأراضى المحتلة، المسلمون منهم والمسيحيون. ومعاناة الأولين معروفة. أما ما يلقاه المسيحيون منهم فهو مسكوت عليه. وهو أظهر ما يكون فى موقف حركة «لهباه» المتطرفة التى يقودها ينتسى غوفشتاين، وله مقال مشهور عنوانه: لنجتث مصاصى الدماء، دعا فيه إلى منع الاحتفال بأعياد الميلاد وطرد المسيحين من الأراضى المقدسة. وأنصاره يعتبرون كل المسيحيين لا ساميين طالما شاركوا فى ذبح اليهود. واعتداءاتهم شبه يومية على الرهبان المسيحيين وعلى كنائسهم ومقابرهم. وهم دائمو الحديث عن أن وجودهم يدنس القدس ويتعين إخراجهم.
ليس لدى أى تحفظ على أن يقوم شيخ الأزهر بدور فى الساحة الوطنية كما أن لقاءه مع البابا مرحب به لا ريب. لكننى أضيف أن رمزية الأزهر تتجاوز الحدود المصرية ولها أصداؤها فى أنحاء العالم الإسلامى. لذلك تمنيت أن ينال ذلك العالم بعض اهتمامه، فى هذا الصدد يثير انتباهنا أنه ذهب لعقد اتفاق سلام مع رئيس الكنيسة الكاثوليكية، فى حين نجده يقف متفرجا إزاء تأجيج العلاقات وتعميقها بين الشيعة والسنة، حتى أصبح الصراع المتفاقم بين الطرفين المسلمين مرشحا لكى يصبح عنوانا رئيسيا للمرحلة المقبلة. وهو ما وضعنا إزاء مفارقة محيرة، فى ظلها نجد الإمام الأكبر ساعيا للتفاهم مع الكاثوليك. معرضا عن التفاهم مع المسلمين الشيعة.
تزاحمت لدى عناوين أحزان المسلمين التى تمنيت على شيخ الأزهر أن يدرجها ضمن اهتماماته، وفى المقدمة منها معاناتهم فى ميانمار وبنجلاديش وأفريقيا الوسطى والصين. إلا أننى تريثت فى تناول تلك العناوين حينما أدركت بأن رحلة الإمام الأكبر إلى الفاتيكان وفرنسا لم تتم بترتيب من الدولة المصرية ولكن قام بها اتحاد حكماء المسلمين الذى يرأسه، وهو ما نبهنى إلى أن ثمة حدودا أخرى لأجندة الزيارة وأهدافها.