فهمي هويدي
أيا كانت الأرقام التى تذاع بخصوص نسبة التصويت فى الانتخابات الرئاسية، فالثابت أن الإقبال على التصويت بدأ متواضعا، وان الأمر احتاج إلى جهد خاص استخدم فيه الترغيب والترهيب لحث الناس على التوجه إلى اللجان للإدلاء بأصواتهم. وقد كان ذلك الإحجام مشهودا إلى الحد الذى دفع كثيرين إلى محاولة تفسيره، خصوصا ان الآمال كانت معقودة على نسبة عالية من المشاركة تبعث برسائل التمكين الواثق للراصدين المترقبين فى الداخل والخارج. ورغم ان النتيجة كانت محسومة ومضمونة، إلا أنه كانت هناك مراهنة خاصة على نسبة المشاركة التى كان من العسير التنبؤ بها. ولا أعرف كيف استقبلت دوائر صنع القرار أخبار الفتور فى الإقبال على التصويت، إلا أننى لا أشك فى أنها لم تكن سعيدة بها. كما اننى لا أعرف كيف تفكر تلك الدوائر فى معالجة الموقف، إلا أننى أزعم أن ثمة رسالة لابد أن يتلقاها أولو الأمر من المشهد، وهى تستحق التدبر والمراجعة.
ما جرى ظل محور تعليق وتحليل خلال الأيام الثلاثة الماضية، إذ تعددت تفسيرات الإحجام. فمن قائل ان حرارة الطقس كانت سببا وان موسم زراعة المحاصيل الصيفية شغل أهل القرى عن التصويت، وان صيام كثيرين فى مناسبة الإسراء والمعراج كان سببا آخر. آخرون حملوا الإعلام المسئولية عن الإحجام لأن أبواقه ما برحت تتحدث عن ان الأمر محسوم لصالح المشير السيسى. ومنهم من قال إن المرشحَين لم يكن وراءهما قوى سياسية حقيقية تحملهما، فضلا عن ان أفكارهما كانت متشابهة. البعض تحدث أيضا عن أن المنافسة كانت ضعيفة بين المرشحَين الاثنين فى حين انها كانت حامية فى الانتخابات الرئاسية التى جرت فى عام 2012 واشترك فيها 12 مرشحا. وتطرق آخرون إلى تخبط القرارات الحكومية بشأن العملية. سواء فيما خص مدة التصويت أو عدد المراكز الانتخابية أو ترتيب أوضاع الوافدين. واعتبر البعض أن ظهور رموز نظام مبارك فى حملة المشير السيسى نفَّر كثيرين وأثار امتعاضهم، فى حين تحدث آخرون عن تصدع جبهة 30 يونيو، ومنهم من أشار إلى الآثار السلبية التى ترتبت على حملات التخوين والقمع التى استهدفت شباب الثورة، والتى أدت إلى محاكمة بعضهم وسجنهم ...الخ.
هذه العوامل ربما أسهمت بدرجة أو أخرى فى قلة أعداد المصوتين، لكننى أزعم أن الذين أحجموا عن الذهاب إلى اللجان ليسوا أقل وطنية من غيرهم، لكنهم يتوزعون على ثلاث فئات هى:
< المتقاعسون الذين اقتنعوا بأنه لا توجد معركة من الأساس. ورغم الجهود التى بذلت إعلاميا لإيهام الناس بأن هناك تنافسا بين المرشحَين إلا أن أقل الناس ذكاء ووعيا كان يدرك جيدا ان نزول حمدين صباحى كان نوعا من «الديكور» الذى أريد به التجميل السياسى وليس منافسة المشير السيسى. إزاء ذلك فإن بين العقلاء من وجد أن الذهاب إلى اللجان والوقوف فى الطوابير فى عز الحر هو نوع من العبث الذى أريد به إحكام إخراج الفيلم. ناهيك عن أنه حين يقتنع المرء بأن صوته لا قيمة له، وان ذهابه أو غيابه لن يؤثر فى النتيجة، فمن الطبيعى أن يؤثر البقاء فى بيته أو الجلوس على أى مقهى. وكما ذكر أحد المتحدثين فإن المواطن العادى لم يكن مشغولا بمنظرنا أمام العالم الخارجى، ولا يهمه أن يمثل دورا فى الفيلم السياسى.
< الرافضون الذين كانت لديهم أسبابهم السياسية التى اقنعتهم بالمقاطعة. أعنى بذلك قطاعا عريضا من الذين خرجوا فى تظاهرة 30 يونيو والذين ينسبون أنفسهم إلى ثورة 25 يناير. وهم الذين احتشدوا فى يونيو دفاعا عن الثورة التى خرجوا من أجلها فى يناير. هؤلاء دفعتهم إلى المقاطعة أربعة عوامل. الأول انهم خرجوا فى 30 يونيو مطالبين بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة وليس لتسليم السلطة للعسكر وإقامة نظام جديد هدم كل ما فات. الثانى انهم لاحظوا هجوما وتجريحا شديدين لثورة يناير من جانب بعض أبواق النظام الجديد وهو ما أثار قلقهم. الأمر الثالث ان ظهور رموز نظام مبارك فى حملة المشير السيسى وفى المنابر الإعلامية المختلفة إلى جانب عودة دولته الأمنية وسياسات حبيب العادلى وزير داخليته. ذلك كله أثار مخاوفهم وشجعهم على المقاطعة. الأمر الرابع أنهم وجدوا ان الجرائم التى ارتكبت بحق الثوار لم يحاسب عليها أحد، خصوصا جرائم قتل المتظاهرين التى يرى فيها ضباط الشرطة ممن اتهموا فى أكثر من 40 قضية، ولم يحاسب منهم سوى واحد أو اثنين.
< الفئة الثالثة ضمت ضحايا الأحداث والصدامات التى تلاحقت بعد 3 يوليو. سواء من الإخوان والمتحالفين أو المتعاطفين معهم، وهؤلاء عددهم نحو خمسة ملايين شخص. وهم الذين أعطوا أصواتهم للدكتور محمد مرسى فى الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة عام 2012. ويدخل ضمن هؤلاء أهالى ضحايا المذابح التى وقعت وأهالى آلاف المعتقلين الذين تعج بهم السجون فى الوقت الراهن، علما بأن بينهم أعدادا لا علاقة لها بالعنف ولا بالإخوان أو التيار الإسلامى، وإنما تم اعتقالهم أثناء حملات القبض العشوائى التى استهدفت تظاهرات طلاب الجامعات والذين تحدوا قانون منع التظاهر. فى هذه الحالة فإن أهاليهم الذين استشعروا المظلومية يجدون أنفسهم فى صف إلى مخاصمة النظام ومقاطعته.
ان إحدى مهام المرحلة المقبلة تتمثل فى كيفية استدعاء هؤلاء والتصالح معهم. سواء الذين فقدوا حماسهم أو فقدوا ثقتهم أو تعددت جراحهم. ليس استرضاء لهم فحسب، ولكن أيضا لكى نستعيد الوئام الذى فقدناه والاستقرار الذى ننشده.
"نقلا عن الشروق"