فهمي هويدي
الاحتجاج فى ذكرى ثورة يناير محرم شرعا، والداعون إليه خونة. هذه هى الرسالة التى جرى تعميمها على جميع المساجد المصرية يوم الجمعة الماضى (٧/١) بناء على تعليمات وزير الأوقاف. وهذه استندت إلى بيان دار الإفتاء الذى اعتبر التظاهر فى ذكرى الثورة إثما يعاقب عليه المرء يوم القيامة، فضلا عن أن الخيانة فيه تستوجب العقاب الرادع. أى إن الداعين إلى التظاهر إذا فعلوها فإنهم سوف يخسرون الدنيا والآخرة.
فى الظروف الراهنة لا أدعو إلى التظاهر ولا أحبذه، كما أنه لا يخيفنى أو يرعبنى. لكننى لا أستطيع أن أخفى دهشة إزاء الهلع الذى أصاب بعض أجهزة السلطة جراء ذلك. فلم أقتنع بأن الداعين إلى التظاهر آثمون فى حق الله أو أنهم خونة ضيعوا حق الوطن، ولا أرى فى التظاهر السلمى بحد ذاته منكرا. إذ لم أنس أن مصر أسقطت حكم مبارك بمظاهرة وأسقطت حكم الإخوان بمظاهرة أخرى، كان الداعى الرئيسى إليها هو الرئيس الحالى عبدالفتاح السيسى. فضلا عن هذا كله وذاك فإننى لم أفهم استبسال المفتى ووزير الأوقاف فى تأثيم وتخوين الداعين إلى التظاهر، إلى الحد الذى دعا الوزير إلى تعميم توجيه بذلك المعنى على المساجد التابعة للأوقاف فى كل أنحاء مصر. وقد نشرت صحف السبت أن الوزير اجتمع بأئمة المساجد فى محافظة البحيرة وخطب فيهم متوعدا المتظاهرين بالعذاب الدينى والدنيوى، ومن المفارقات أنه حذرهم فى الوقت ذاته من الحديث فى السياسة(!) كأن كلامه كان فى العقيدة أو فى التفسير وأصول الفقه. وحتى تكتمل عناصر العبث فى المشهد فإن أئمة المساجد نقلوا الرسالة إلى المصلين فى مختلف المحافظات المصرية من شمال سيناء إلى أسوان، فى حين أن القلق كله منصب على ما يمكن أن يحدث فى القاهرة.
المشهد الذى يبدو أقرب إلى الصرعة أو اللوثة يستدعى عندى ملاحظات عدة منها ما يلى:
* إن أجهزة الدولة المصرية تبدو مهتزة ومرتعشة بأكثر مما ينبغى. إذ فى حين يرجح كثيرون ـ أنا منهم ـ أن يوم ٢٥ يناير لن يشهد ما يبعث على القلق ويستدعى الاستنفار. إلا أن الرؤية الأمنية ليست واثقة من ذلك فيما يبدو. الأمر الذى جعلها تبالغ فى الاحتياطات وإجراءات الاشتباه والقمع. وهوما يوسع من دائرة الخوف بغير مبرر يذكر.
* إن عملية الاستنفار والتعبئة المضادة أقحمت المؤسسة الدينية التى أشهرت سلاح الفتاوى لتخويف الناس من مغبة المشاركة فى المظاهرات المتوهمة، ولتجريم وتخوين الداعين إلى التظاهر. وهو ما حوَل منابر تلك المؤسسة إلى أبواق للأجهزة الأمنية، الأمر الذى جاء خصما على مصداقيتها وهيبتها.
* إن التوظيف السياسى والأمنى للمؤسسة الدينية أصبح يحتل مساحة واسعة من أداء تلك المؤسسة، بحيث أصبح دفاعها عن الحكومة وسياساتها طاغيا على دورها فى التبليغ والدعوة إلى الله. ومن ثم فقدت تلك المؤسسة استقلالها وانضمت بصورة عملية وضمنية إلى قائمة مؤسسات القطاع العام.
* إزاء استفحال تلك الظاهرة فإن معادلة تدخل الدين فى السياسة انعكست، بحيث صرنا أمام موقف مستجد نشكو فيه ونحذر من تدخل السياسة فى الدين. وإزاء النفور الشعبى من ذلك فإننى أخشى أن ينتهى الأمر بالمؤسسة الدينية وقد خسرت دورها على الصعيدين الدينى والدنيوى.
* حين تزامن ذلك الأداء مع تواتر الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى، فإنه يفتح الباب واسعا للتساؤل وعدم الاطمئنان إلى مقاصد التجديد المنشود ومدى علاقته بابتذال ذلك الخطاب وإلحاقه بالخطاب الأمنى.
لقد أثار انتباهى أن القلق من تسييس المؤسسة الدينية ليس مقصورا على المسلمين وحدهم، ولكن له صداه أيضا فى أوساط الأقباط المصريين. إذ استوقفتنى فى هذا الصدد ملاحظات لبعض الأقباط الغيورين تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعى خلال اليومين الأخيرين. وهى التى عبرت عن استنكار مظاهر التظاهر السياسى التى شهدتها الكاتدرائية المرقسية أثناء الاحتفال بأعياد الميلاد رغم أنها أصلا مكان مخصص للعبادة. وكتب أحدهم ــ مينا منسى صليب ـ قائلا: بحثت عن المسيح صاحب الميلاد فلم أجده لأنه يفر من مثل تلك المشاهد المصطنعة ويذهب إلى حيث يجد راحته، مع المظلومين والمضطهدين. وكتب آخر ـ ميخائيل لطيف ـ قائلا إن الجميع عليهم أن يتذكروا أن المسيح كان ثائرا، لذلك فإن الأقباط باتوا مخيرين بين أن يتبعوا المسيح أو يتبعوا الكنيسة.
إن أجندة الإصلاح المطلوب فى العام الجديد أطول بكثير مما نتصور.
نقلاً عن "الشروق"