فهمي هويدي
صادمة ومفجعة الصور التى نشرت عن أوضاع المستشفيات المصرية. ذلك أن كثيرين منا لم يخطر على بالهم أن يكون الواقع بائسا ومزريا إلى تلك الدرجة التى صعقتنا. وكان رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب أولنا، حين قام بزيارة لاثنين من المراكز الطبية فى القاهرة، ولم يصدق ما رأته عيناه من إهمال وتدهور. حتى طلب من وزير الصحة أن ينقل مكتبه إلى أحدهما (معهد القلب) وأن يدير وزارته من هناك. وحين ارتطم الرجل بالحقيقة وذاع الخبر فإن الأطباء لم يقصروا فى دق الأجراس ولفت الأنظار إلى الحالة الكارثية التى وصلت إليها الأوضاع فى المستشفيات والوحدات الصحية الحكومية. وقادت نقابة الأطباء حملة دق الأجراس، التى شارك فيها ١٤٠ ألف طبيب حتى أمس. وهو ما أتاح لنا أن نرى بأعيننا الأبنية المتهالكة والأسرة المحطمة ودورات المياه التى تأفف منها الحيوانات. والكلاب الضالة والقطط والمعيز والحشرات التى ترتع فى أروقة المستشفيات.. إلى غير ذلك من مظاهر اللامعقول التى تعشش فى أبنية ذلك المرفق المهم والخطير. كأنما شاءت المقادير أن تكشف الحملة عن الآثار المباشرة التى خلفتها سنوات الفساد والإهمال والظلم، التى اعتنت فيها السلطة بالمنتجعات والمشروعات العملاقة واحتمت بشرائح الأثرياء والمستثمرين أصحاب الصوت العالى والثروات الكبيرة. ومن ثم نسيت الملايين الذين لا صوت لهم ويكافحون لكى يوفروا لقمة العيش لعيالهم.
الصدفة وحدها فتحت أعيننا على الكارثة. إذ لولا الزيارة المفاجئة التى قام بها وزير الإسكان لمعهد القلب لما انفضح الأمر. وإذ يقدر المرء الجهد الكبير الذى يبذله المهندس إبراهيم محلب فى محاولته تحريك المياه الراكدة ومحاربة التراخى والإهمال، فإننا لابد أن نقرر بأن الرجل يقوم بعمل يفترض أن ينهض به غيره. وأن رئيس الوزراء إذا كان مضطرا لأن يذهب بنفسه لتحريك عجلة العمل فى مختلف المجالات بالكفاءة المرجوة. فإن ذلك يعنى أن ثمة فشلا ذريعا من جانب أجهزة الإدارة والرقابة. ناهيك عن أن تلك مهمة مستحيلة. وحتى إذا كانت ممكنة فهو ليس مطالبا بها، حيث يفترض أن يقوم بدور المايسترو أو المدير الذى يقود فريق الوزراء الذى يرأسه. أما أن يطوف بنفسه على المستشفيات والمجمعات والطرق والكبارى، فمعنى ذلك أنه لن يدير، وسيغرق فى بحر التفاصيل. مع افتراض أنه امتلك طاقة خارقة مكنته من ذلك.
أتابع الجهد الذى يبذله الرجل بخليط من مشاعر التقدير والإشفاق والقلق، الأمر الذى يدفعنى إلى تسجيل الملاحظات والأسئلة التالية:
* إن الصور الكارثية التى طالعناها إذا كانت قد سجلت المدى الذى بلغه تدهور الخدمات الطبية فى المدن المصرية الكبرى وعواصم المحافظات. فإنها لابد أن تثير قلقنا الشديد على مستوى الخدمات فى القرى والنجوع البعيدة التى لا يمر بها الوزراء والكبراء ولا تصل إليها وسائل الإعلام إلا إذا حلت بها كارثة.
* إن مشكلات القطاع الصحى لن تحل بنقل الوزير مكتبه إلى أحد المراكز الطبية، وإنما تحل من خلال فتح الملف وتحديد عُقده ونواقصه بالتعاون مع النقابة المنتخبة من الأطباء. إذ إلى جانب مشكلات الأبنية والتجهيزات فإن أوضاع الأطباء وهيئات التمريض تحتاج إلى معالجة شاملة. فلا يعقل مثلا أن يزيد الراتب الشهرى لأمين الشرطة على راتب الطبيب. ولا يعقل أن يتقاضى الطبيب ثلاثين جنيها كبدل عدوى فى حين يمنح القاضى ثلاثة آلاف جنيه بدل علاج.
* إننى أخشى أن نتعامل مع ما جرى باعتباره فرقعة تنسى بمضى الوقت، أو تحصر الاهتمام بالمستشفيات الحكومية وحدها، وننسى أن تدهور أوضاعها هو أحد أوجه تدهور الخدمات كلها. ولو أن رئيس الوزراء زار أى مدرسة فى الصعيد أو الدلتا مثلا فإنه سيخرج بانطباع مماثل لما اكتشفه حين زار معهد القلب.
* إن التدهور الحاصل فى جميع مجالات الخدمات إذا كان قد نشأ فى غياب الرقابة التى يفترض أن تمارسها أجهزة الإدارة. فإننا لا نستطيع أن نعفى أجهزة الحكم المحلى والرقابة الشعبية من المشاركة فى المسئولية عنه. إذ حين تراخت أجهزة الإدارة وغابت الرقابة الشعبية أو فسدت فلم يكن مستغربا أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه فى الصحة والتعليم والإسكان وغيرها من الخدمات التى تجبى الضرائب أساسها لتوفيرها للناس بما يحفظ إنسانيتهم وكرامتهم.
* إن لحظة الحقيقة التى كشفت عنها زيارة رئيس الوزراء إذا أخذت على محمل الجد، فينبغى أن تمثل نقطة تحول فى النظر إلى الأولويات وتوجيه الموارد. وطالما أنه ليس لدينا برلمان يحاسب ويراقب وتعتمد من جانبه السياسات والخطط، فليتنا نشكل غرفة عمليات تتبنى رؤية واضحة للتعامل مع قطاع الخدمات. فتتولى تقصى حقائق مجالاته المختلفة والتعرف على الاحتياجات اللازمة للنهوض بها لتوجيه الموارد وإعادة النظر فى أوجه إنفاقها، بدلا من تبديدها فى مهرجانات دعائية ومشروعات عملاقة ندخل بها سباق الوجاهة الذى نحن فى غنى عنه.
أحيانا يخطر لى أن الخدمات التى تقدم إلى عموم الخلق فى كل مجتمع هى المعيار الحقيقى لقيمة الإنسان فى ذلك المجتمع. وأحزننى أن أستخدم ذلك المعيار وأطبقه على الصورة المزرية التى رأيناها فى المستشفيات.