فهمي هويدي
مشكلة أن ترى العالم من حولك من ثقب صغير. والمشكلة الأكبر أن تحاكمه بناء على ذلك. هذه الرؤية عبر عنها الكاتب الوجودى الفرنسى هنرى باريوس فى رواية أصدرها عام 1918 باسم «الجحيم»، ظل بطلها كولن ولسون يراقب ما حوله من غرفة مغلقة فى فندق، مرة من ثقب الباب ومرة أخرى من ثقب فى الجدار. وإذ ظن أنه اكتشف العالم من حوله، فإنه لم ير شيئا من الحقيقة، وإنما ظل محكوما بالقدر الذى أتاحه له هذا الثقب أو ذاك.
فكرة الثقب هذه نشهدها فى العديد من ممارسات المجال العام، فى أوساط بعض المثقفين الذين يتعلق الواحد منهم بثقب ويرى منه ما حوله فيقدم لغيره صورة منقوصة أو شائهة. لكن ذلك الخطأ يتفاقم ويصبح خطرا حين يتعلق الأمر بالسياسيين لأن تلك الرؤية المنقوصة أو الشائهة تنبنى عليها فى هذه الحالة مواقف أو تتقرر سياسات تتعلق بمصائر آخرين.
سأوضح الفكرة أكثر من خلال استعادة نماذج من الحاصل فى مصر خلال الأشهر الأخيرة. ذلك ان بعض الحوادث التى وقعت ولم تعرف خلفياتها على وجه التحديد اتخذت ذرائع لإصدار قرارات استراتيجية مهمة لها تأثيرها المباشر على مصير الاستقرار فى البلد، ولأن تلك الحوادث كانت بمثابة الثقب الذى رؤى منه المشهد، فإن القرارات التى اتخذت بناء على تلك الرؤية أضرَّت بأكثر مما نفعت، وكان تأثيرها على الاستقرار وعلى المستقبل وخيما. تابعنا فى هذا الصدد ما سمعناه عن لقطات سياسية، بينها التقاء مسئول كبير فى الدولة مع أحد القيادات السياسية. وحسب الرواية فإنه بدا من حديث الأخير انه ينذر ويهدد، الأمر الذى اعتبره المسئول رسالة سلبية أدت فى النهاية إلى قلب المشهد الأوسع رأسا على عقب. وأيا كان رأينا فى مدى دقة الرواية أو صحة الرسالة، فإن صدورها عن شخص مع تجاهل كل الظروف المحيطة به، أو التاريخ الممتد وراءه، كان بمثابة التزام بحدود الثقب، لأن الأمر كان يمكن أن يختلف كثيرا لو رؤى المشهد على حقيقته سواء بالاطلال عليه من نافذة أوسع أو الوقوف عليه بعد فتح الباب على مصراعيه. ذلك ان النظر العاقل والمتوازن بل والرؤية الاستراتيجية الصائبة ترفض فكرة اختزال التاريخ فى لحظة. وحين يتعلق الأمر بتجمعات بشرية وتيارات فكرية أو سياسية عريضة فإن تقييمها وتحديد مصيرها لا ينبغى أن يكون مستندا إلى حوار اتسم بالانفعال فى لقاء ما، وإنما التقييم الصحيح يتم من خلال رصد أدبيات التيار وتراثه وخبرته التاريخية والاتكاء على الرؤية التى تعبر عن مؤسساته. أما التعجل باتخاذ قرارات استراتيجية بناء على انطباعات اللحظة وحدود الثقب فإنه يعد خطأ جسيما وتعجلا غير محمود، وفى هذه الحالة فإن شكوكا كثيرة تثار حول البراءة فى دوافع القرار، لأن احتمال التصيُّد والترصد يكون راجحا.
الحالة السورية تقدم نموذجا ناصعا يوضح الفكرة التى أريد إيصالها. ذلك ان شرارة الغضب التى انطلقت من درعا فى شهر مارس من عام 2011 عبرت عن ضيق بلغ ذروته بممارسات النظام البعثى الذى استبد وأذل السوريين منذ استيلاء الحزب على السلطة فى ستينيات القرن الماضى. وحين تناثرت شرارات الغضب فى أنحاء البلاد فإن الشعب السورى انتفض متشجعا بأجواء الربيع العربى التى لاحت آنذاك وطالب بإسقاط النظام. وانحازت بعض عناصر القوات المسلحة إلى جانب الشعب، من خلال ما عرف لاحقا باسم الجيش السورى الحر. ومع انتشار الثورة فى أنحاء البلاد ظهرت فى ساحة المقاومة جماعات أخرى تحت مسميات مختلفة وقدمت نفسها باعتبارها صدى لها وشريكا فيها. بعض تلك الجماعات ارتكبت أخطاء وأقدمت على ممارسات لطخت وجه الثورة، حتى ثارت شكوك كثيرة حول دور أجهزة مخابرات النظام البعثى فى تشكيلها بما تتمتع به من دهاء وخبرة فى الافساد والقمع. أقدمت بعض تلك الجماعات على ارتكاب فظائع تمثلت فى قطع الرءوس وقهر النساء ونبش القبور واضطهاد الأقليات. وروجت من حولها شائعات من قبيل ما سمى بجهاد النكاح. إلى غير ذلك من الممارسات المفجعة والصادمة، التى جذبت إليها الأنظار وصرفتها عن حقيقة الثورة وجوهرها. رغم أنها كانت استثنائية ومحدودة، وبعضها شائعات لا أصل لها (مثل جهاد النكاح).
فى الوقت الراهن صارت مشكلة الثورة السورية ان كثيرين أصبحوا يرونها من خلال الممارسات الشاذة والصادمة، التى باتت بمثابة الثقب الذى أصبحت الثورة تقرأ من خلاله. وصار جهد الذين انتفضوا لتخليص سوريا من حكم البعث منصبا على اقناع كل من له صلة بالموضوع بأن هناك قضية أكبر كثيرا من تلك الممارسات المرئية عبر الثقب. وهى التى أفاد منها النظام إلى أبعد مدى، باعتبار ان استمراره أصبح خيارا مفضلا بعدما صار أقل سوءا مما تبشر به تلك المجموعات التى طرأت على المشهد.
لست أنكر أن ما يرى من الثقب يظل جزءا من الحقيقة، لكننى أزعم أن السياسة الرشيدة ينبغى أن تتجنب الإطلال من الثقوب والزوايا الضيقة، لأن فتح النوافذ والأبواب وحده الكفيل بتصويب النظر والإطلال على الحقيقة بما ينصفها ولا يزورها.