فهمي هويدي
أحدث أخبار الفتنة جاءتنا من الجزائر، كأن الفتن التى يعج بها المشرق لم تكن كافية فتقدم نفر من أهل المغرب ليكملوا النصاب كى تعم البلوى ولا يستثنى منها قطر. فقد نقلت إلينا وكالات الأنباء فى نهاية الأسبوع الماضى أخبار الصدامات التى وقعت بين السلفيين والأباضية التى أوقعت ٢٥ قتيلا غير عشرات الجرحى. وهؤلاء أعادوا الحياة إلى نهر الدم الذى ظننا انه جف فى الجزائر اكتفاء بأفرعه التى انتشرت فى فضاءات المشرق.
الأحداث شهدتها ولاية غردايه التى تقع فى قلب الصحراء الجنوبية، وتبعد ٦٠٠ كيلومتر عن الجزائر العاصمة. وسكانها البالغ عددهم ٣٨٠ ألف نسمة أغلبهم ينتمون عرقيا إلى الأمازيغ، وهم من اتباع المذهب الأباضى الذى له وجوده فى أطراف الدول المغاربية (فى جربة التونسية وزوارة فى ليبيا) إلا أن سلطنة عمان تعد قاعدة المذهب ومعقله الأساسى. والمذهب الأباضى ارتبط باسم عبدالله بن اباض أحد الفقهاء الذين برزوا فى زمن عبدالملك بن مروان أحد خلفاء بنى أمية، وهم ليسوا من أهل السنة أو الشيعة رغم ان مذهبهم أقرب إلى المعتزلة، وهو معترف به عند أهل السنة، حيث لم يجد فيه فقهاؤه سوى بعض الاختلاف فى المسائل العقيدية والغيبية مثل رؤية الله يوم القيامة. ورغم أن الأباضية ظلوا على مدى التاريخ جزءا من الجسم الإسلامى المقدر إلا أن غلاة السلفيين كانوا ولايزالون مصدرا دائما لتوتير العلاقة معهم ضمن غيرهم من المخالفين. إذ اتهموهم بأنهم من الخوارج، كما اتهموا غيرهم من الشيعة الإثنى عشرية والزيدية بأنهم «روافض» واتهموا المتصوفة بأنهم من أهل البدع. وبسبب هذه الخلفية فإن التجاذبات بين السلفيين والأباضيين لم تتوقف طوال القرون التى خلت. إلا أن أسباب التجاذب كانت أكبر من حالة الجزائر. لأن الأباضية هناك لم يكونوا مختلفين فى المذهب فحسب، وإنما اختلفوا فى العرق أيضا، باعتبارهم من الأمازيغ. الأمر الذى أضاف مصدرا آخر للحساسية بين الجانبين.
ظلت الفتنة نائمة إلى ان بثت قناة «اقرأ» السعودية حلقة حوارية حول الأباضية شارك فيها من وصف بأنه من علماء الجزائر، وكان محور المناقشة يدور حول فساد عقائدهم وجواز قتلهم واستباحة أموالهم باعتبارهم خارجين عن الملة. وهو ما أحدث صداه فى سلطنة عمان. التى عالجت الأمر على طريقتها التى تتسم بالكتمان والهدوء. إلا أن الأمر اختلف فى الجزائر حيث تعرف الجماعة هناك على طبيعتهم المتسمة بالانفعال والحماس. وكانت النتيجة ان المظاهرات خرجت فى غردايه تهتف: لا إله إلا الله، الأباضى عدو الله!
فهمت ان التوترات بين الجانبين تصاعدت خلال السنتين الاخيرتين، وان الحلقة التليفزيونية سابقة الذكر أعيد بثها مرة ثانية الأمر الذى رفع من وتيرة الغضب وفجر الصراع بين الجانبين. ومن ثم تحول الاشتباك بالكلام إلى اشتباك بالسلاح، اقترن بإحراق بعض المحلات التجارية ونهبها وباللجوء إلى الاعمال الانتقامية المتبادلة، التى استدعت إعلان الطوارئ فى الولاية وتدخل الجيش للسيطرة على الموقف.
رغم ان المحللين تحدثوا عن تفاقم المشكلة العرقية وعن تدهور الأوضاع الاقتصادية فى الولاية، إلا أن أحدا لم يختلف عن ان الخلاف المذهبى ظل حاضرا طول الوقت، وان خصومات السلفيين للأباضية كان لها إسهامها الأكبر إن لم يكن الأول الذى أطلق العنان للفتنة فى الولاية.
بقيت عندى ملاحظتان هما:
< اننا تعلمنا من خبرة التاريخ ان مثل هذه الحرائق تشب غالبا حين يتسم الواقع الاجتماعى بالهشاشة والضعف. الأمر الذى يجعل البيئة قابلة للاختراق والاحتراق. تماما كما يحدث لأى جسم ضعيف يعصف به أى فيروس مهما بلغت تفاهته. لذلك فإن استعادة الجسم لعافيته تشكل طوق النجاة التى تمكنه من تجنب ذلك المصير. صحيح ان المرارات والحساسيات التاريخية لها دورها الذى لا ينكر فى الاشبتاك، إلا أننا لا ينبغى ألا ننسى أن نقص مناعة المجتمع يسهم بدور مهم فى إشاعة القابلية للاشتباك. وأعنى بتلك المناعة القدر من التماسك والتلاحم الذى يتوفر للمجتمع حين يستشعر أفراده انهم يشتركون معا فى مسئولية بناء حاضرهم ومستقبلهم. ذلك ان المواطنين فى المجتمع حين يستشعرون ان مظلة الوطن تهملهم ولا تحتويهم، فإنهم يلجأون إلى الاحتماء بالطائفة أو المذهب أو القبيلة، لذلك فإن دراسة الأوضاع السياسية والاجتماعية فى أى بلد تظل مهمة فى التعرف على أسباب ومصادر الصراع بين مكوناته.
< الملاحظة الثانية اننا يجب ان نعترف بأن غلاة السلفيين كانوا ولايزالون يشكلون أحد مصادر إثارة الفتنة والشقاق فى العالم الإسلامى. ذلك أن اشتباكاتهم لم تتوقف على مدى التاريخ مع مخالفيهم من المسلمين الأباضية والمتصوفة والمعتزلة والزيود والشيعة، كما ان لهم صراعاتهم ضد المخالفين الآخرين، الدروز والعلويين الأقباط. وهو ما يستدعى السؤال التالى: هل نوجه إليهم اللوم والعتاب، أم ننحى باللائمة على البيئة الثقافية والاجتماعية التى قوت من شوكتهم ولم تتح لقوى الاعتدال ان تنضح بحيث يكون لها الصوت الأعلى والتأثير الأكبر؟