بقلم فهمي هويدي
علمتنا دروس التاريخ أن أى نظام إذا أراد أن يستنفر الرأى العام ويشيع فى أوساطه التوتر والخوف فإن فكرة المؤامرة تصبح حلا جاهزا ثبتت فعاليته. خلَّد هذه الفكرة البريطانى جورج أورويل فى روايته الشهيرة «١٩٨٤» التى صورت مصير أوروبا إذا ما تحقق النصر للنازيين فى الحرب العالمية الثانية. إذ قدم فيها نموذج دولة الاستبداد «أوشينيا» بقيادة «الأخ الأكبر» الذى روع الناس وأخضعهم من خلال تخويفهم الدائم من عدو وهمى يتربص بالشعب اسمه ايمانويل جولدشتاين ودولة وهمية هى «أوراسيا» تسعى إلى تقويض نظامهم. والاثنان كانا ركنى المؤامرة التى ظل الأخ الأكبر طول الوقت يعبئ الموارد لصدها سواء على الجبهة فى الخارج، أو من خلال القضاء على الأشرار من رجال جولدشتاين فى الداخل، وهم الناقدون الذين أصبحوا نموذج «أهل الشر» الذين يتعين استئصالهم والخلاص منهم أولا بأول.
ما تخيله أورويل فى روايته التى صدرت فى منتصف القرن الماضى، كان إحدى حقائق النظام الفاشى الذى أقامه موسولينى فى إيطاليا خلال العشرينيات، ذلك أنه أصدر قانونا فى عام ١٩٢٦ قضى بإسقاط الجنسية عن أهل الشر من معارضيه، باعتبار أنهم جزء من المؤامرة الوهمية، الأمر الذى يجعلهم غير جديرين بالمواطنة الإيطالية، وقد أصل الفكرة الفيلسوف الإيطالى جورجيو اغامبين فيما كتبه عن المقابلة بين دولة الحق ودولة الأمن. وذكر أن دولة الأمن تحتاج إلى الخوف لترسى مشروعيتها على أساس قوى. لذلك فإنها تعمد إلى إنتاج الرعب أو تركه ينتشر بين الناس بغير معوق. إذ من مصلحة دولة الأمن أن يسود ذلك الشعور الذى يقترن فيه الرعب مع الحيرة والبلبلة جراء إقناع الناس بأن بلادهم تتعرض لمؤامرة وتخوض حربا مفتوحة وبلا نهاية ضد عدو مبهم.
تجتاح روسيا فى عهد الرئيس بوتين حمى المؤامرة التى باتت وسائل الإعلام تتحدث عنها بصفة شبه يومية. ولا يمل الرئيس الروسى ومعاونوه من استعادة خلفيات الحرب الباردة التى شهدت سنوات الصراع ضد المعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة، لإذكاء الشعور القومى وتبرير السياسات الراهنة التى تستهدف تكميم أفواه المعارضين الذين يقدمون بحسبانهم طابورا خامسا وجزءا من المؤامرة على الدولة الروسية. وهو ما حذر منه الرئيس بوتين أكثر من مرة، بل إن الإعلام الرسمى بدأ يتحدث عن طابور سادس آخر فى روسيا باعتبار أن مؤامرة الطابور الخامس استهدفت تفكيك الدولة الروسية والتمهيد لتمدد النفوذ الغربى. أما السادس فهو يتبنى القيم الحضارية الغربية وليس نفوذها السياسى.
الشاهد أن فكرة المؤامرة أيا كانت مسمياتها أصبحنا لا نسمع بأمرها إلا فى الدول غير الديمقراطية. يشجع على ذلك أن نسجها والترويج لها إعلاميا من السهولة بمكان، فضلا عن أنها تقدم صيغة فضفاضة تتيح لأى نظام أن يعلق مشاكله التى يعجز عن حلها على عناوينها الغامضة. كما أن الإحالة إليها توفر لأى نظام سلاحا يستخدمه لتعبئة الرأى العام وإشعاره بالخطر، بما قد يصرف انتباهه عن مشاكله الحياتية. وهى الفكرة التى أبرزها أورويل فى روايته التى سبقت الإشارة إليها.
شيوع ظاهرة المؤامرة الخارجية فى الدول غير الديمقراطية دون غيرها من دول العالم ذكرتنى بملاحظة الشيخ محمد الغزالى رحمه الله التى سخر فيها من ادعاء البعض تعرضهم لركوب الجن. إذ تساءل ضاحكا ذات مرة: لماذا يركب الجن أناسا من المسلمين فقط فى حين لم نسمع أنه ركب أحدا من الأمريكيين أو الفرنسيين؟!.. وحين ألقيت السؤال ذاته فيما خص المؤامرة، وجدت أن الدول الديمقراطية ليست مضطرة لاستخدام الفكرة، سواء لأنها تملك شجاعة الاعتراف بأخطائها ونقد ذاتها، أو لأن لديها مؤسسات تمثل المجتمع تقوم بدور الرقابة والمحاسبة والتصويب. وهو ما تفتقد إليه الدول غير الديمقراطية التى تستدعى المؤامرة وتتذرع بها لكى تغطى سوءاتها.
ما سبق ليس سوى تفكير بصوت عال فى الأجواء الراهنة فى مصر، التى عبرت شرائح واسعة فى المجتمع عن الغضب إزاءها، وسمعنا أصواتا أرجعت الغضب إلى مخططات الخارج ومؤامرات أهل الشر ودسائس الجيل الرابع من الحروب، وكانت كلها هروبا من نقد الذات ودعوات إلى مد البصر وراء الحدود، تجنبت النظر إلى مواقع الإقدام أو مطالعة الوجه فى المرآة. وهو ما كان فى حقيقته تعبيرا عن أزمة الديمقراطية وليس من تجليات أزمة الاستهداف أو التآمر الخارجى.