فهمي هويدي
ما أن أعلن نبأ اغتيال النائب العام فى مصر حتى ارتفع صوت الجنون عاليا. جنون المحرضين والمهللين. الأولون دعوا إلى تعليق المشانق والآخرون تمنوا حفر المزيد من القبور. الاثنان على ما بينهما من تناقض وخصومة اتفقا على شىء واحد هو إراقة المزيد من الدماء وتأجيج الحريق وتوسيع نطاقه. إذ استسلمنا لمشاعر الانتقام والكراهية فرأى كل طرف ثأراته وما خطر له شأن الوطن على بال.
كانت دماء الرجل لاتزال طريَّة على الأرض، وجثته لم تخرج من غرفة الجراحة، وخبراء البحث الجنائى لايزالون يعاينون مكان الجريمة، ولم يفتح تحقيق ولا بدأ سؤال الشهود. فى حين كانت الألسن منعقدة من أثر الصدمة وهول الفاجعة. مع ذلك انطلقت أصوات الجنون تتردد فى الفضاء. المحرضون يستنفرون ويهيجون والمهللون يتلمظون ويشمتون. الأولون احتلوا مواقعهم على شاشات التليفزيون، والآخرون أقاموا احتفالهم فى الفضاء الإلكترونى.
المحرضون حددوا موقفهم كالتالى: الإخوان هم الفاعلون والقمع هو الحل والأمن ينبغى أن يستنفر ويتشدد والقوانين يجب ان تستلهم الطوارئ. والإعدامات يجب أن تنفذ وأى حديث عن الانفراج أو التفاهم يجب أن يتوقف. أما المهللون فقد اعتبروا أن ما جرى عقابا ساقته الأقدار أخذا بثأر ضحاياهم، وادعوا ان ما جرى يعد علامة على ضعف النظام وقرب سقوطه وانتصارا لسياسة العنف وردعا لخصومهم.
إذا جاز لى أن ألخص القدر الذى تابعته من أصداء الحدث فلعلى أقول إن صوت الغلاة من الجانبين ظل هو الأعلى. غلاة المحرضين الذين تشنجوا وظلوا يلحون على تشديد القمع، وغلاة المهللين الذين عمدوا إلى تبرير الجريمة والحفاوة بها. ولكى أكون منصفا فإننى سمعت صوتا استثنائيا غرد خارج سرب الجنون وتكلم بلغة العقل وتحدث عن أن القانون هو الحل. وكان صاحب الصوت هو الأستاذ عبدالغفار شكر رئيس حزب التحالف الشعبى الاشتراكى ونائب رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان. إذ حين سئل فى حوار تليفزيونى حول الحاجة إلى إصدار قانون الإرهاب الذى دعا إليه آخرون من المحرضين، فإنه نفى الحاجة إلى اتخاذ إجراءات قانونية استثنائية واعتبر ان تطبيق قانون الجنايات الحالى يمكن أن يؤدى الغرض.
لست أشك فى أن هناك آخرين غير الأستاذ عبدالغفار شكر لايزالون يحتفظون بتوازنهم العقلى ولم يلتحقوا بسرب الجنون، إلا أن اللوثة والضجيج الإعلامى حجب أصواتهم. وأخشى ما أخشاه أن يتأثر القرار السياسى بالجنون الإعلامى بحيث تنزلق مصر فى اتجاه القمع بما يستصحبه من تداعيات تدخلنا فى نفق لا نعرف منه خروجا، وقد يؤدى إلى استنساخ تجارب أخرى فى المنطقة ظننا أو تمنينا أنها غير صالحة للتطبيق فى مصر. إلا أن ملابسات حادث اغتيال النائب العام تنبهنا إلى أن ذلك الاحتمال ليس مستبعدا تماما. ولهذا السبب بالتحديد أزعم أن الجريمة التى وقعت تستحق دراسة خاصة تسترشد بالعقل، وتتعالى على التشنج والانفعال بقدر ما نرفض الاستسلام للثأر أو الكراهية.
إن تحليل القضية يبدأ بتحديد الفاعلين بناء على تحقيق نزيه. إن من شأن ذلك ان يوفر خيطا يوفر لنا التعرف المنعطف الذى نحن متجهون إليه. فى هذا الصدد فإننى أرجو أن نتجنب الوقوع الخطأ الذى وقعنا فيه عام ٢٠١٣، حين تم تفجير مديرية أمن الدقهلية يوم ٢٤ ديسمبر فاجتمع مجلس الوزراء فى اليوم التالى مباشرة (٢٥/١٢) وأعلن مسئولية الإخوان عن الحادث واعتبرها بناء على ذلك «جماعة إرهابية» فى بيان أعلنه الدكتور حسام عيسى نائب رئيس الوزراء آنذاك. ولكن أنصار بيت المقدس بثوا شريطا للعملية فى وقت لاحق أعلنوا فيه مسئوليتهم عنها وحددوا فيه اسم الانتحارى الذى نفذها (أبومريم). وكانت النتيجة ان اتجهت أبصار أجهزة الأمن لملاحقة الإخوان وتركت أنصار بيت المقدس يتوحشون فى سيناء. من ثم جرت تصفية الحسابات السياسية على حساب الاستقرار الأمنى.
بشكل مواز فإن المراجعة واجبة لتأمين المسئولين. كما ان المراجعة ضرورية لتداعيات وثمار السياسة الأمنية المتبعة التى لم تنجح فى مقاومة الإرهاب خلال السنتين الأخيرتين. والذى لا يقل عن ذلك أهمية أن تتم مناقشة العوامل التى أدت إلى استهداف الإرهاب للجيش والشرطة والقضاء وعلاقة هذه الأطراف بالصراع السياسى الدائر فى مصر. وستظل المراجعة منقوصة إذا لم تشمل عناوين أخرى أساسية فى تحقيق الاستقرار مثل الانفراج السياسى ووقف انتهاكات حقوق الإنسان واحترام الدستور والقانون وغير ذلك من عوامل امتصاص الغضب وإزالة المرارات والأحقاد واحياء الأمل فى الإصلاح السياسى والحلول السلمية.
إن هتافات الشامتين مدانة بذاتها وساقطة سياسيا وأخلاقيا. أما صيحات دعاة القمع فلى عليها تعليق واحد استعيره من كلام الخليفة عمر بن عبدالعزيز لأحد الولاة حين حدثه فى أمر أخذ الرعية بالشدة فكان رده فى ثلاث كلمات هى: حصِن ديارك بالعدل.