فهمي هويدي
لا تكف صفحات الحوادث عن تذكيرنا كل حين بأن مشكلات الواقع المصرى أوسع نطاقا وأكثر تعقيدا مما يصوره الخطاب السياسى. وإذا كانت قد احتلت الصدارة هذه الأيام أخبار تسمم المياه فى محافظة الشرقية وانهيار أحد الجسور فى الدقهلية وخروج المترو عن الخط فى القاهرة وغرق سفينة أو «صندل» الفوسفات فى النيل بقنا، فإن تلك مجرد «عينة» لظاهرة التسيب والإهمال والانهيار فى مستوى الخدمات التى تقدم للناس. ولو أردنا أن نسترسل فى رصد تلك المظاهر فسوف نفتح الأبواب لتقليب مواجع لا حصر لها، تتجاوز بكثير المشكلات المزمنة الناشئة عن التدهور فى مجالات التعليم والصحة والإسكان، لتصل إلى مأساة الطرق ــ مثلا ــ التى أصبحت سبة فى جبين مصر، بعدما أصبح عدد الذين يقتلون بسببها يتراوحون بين ١٢ و١٥ ألف مواطن سنويا. وهو رقم يتجاوز بكثير ضحايا الإرهاب الذى استنفرت مختلف القدرات المصرية لمواجهته طول العشرين شهرا الأخيرة.
لست فى صدد استعراض مظاهر تدهور البنية التحتية فى مصر أو استعراض المشكلات التى يعرفها الجميع ويعانون منها، كما اننى أفهم ان هذا الذى حدث هو حصاد عدة عقود من الإهمال والتسيب والفساد، التى ظلت مؤسسات الدولة خلالها معنية بحماية النظام وخدمة أركانه والمنتفعين به بأكثر من عنايتها بحماية المجتمع وخدمة ناسه وفقرائه. ولا أستبعد ان يكون الرئيس عبدالفتاح السيسى قد أدرك تنامى مشاعر القلق لدى المصريين جراء استمرار معاناتهم، لذلك دعاهم إلى الاعتصام بالصبر فى كلمته التى ألقاها فى عيد العمال ووعدهم بأن الأوضاع سوف تتحسن خلال سنتين قادمتين، إضافة إلى قرابة السنتين اللتين أمضاهما فى السلطة حتى الآن. وأغلب الظن أن الرئيس لم يشر إلى الأسباب الموضوعية التى دعته إلى تحديد ذلك الموعد، اطمئنانا إلى ثقة الناس فيه وحسن ظنهم بنواياه.
للأسف فإن الرأى العام فى مصر أصبح مشغولا بأمور هامشية لا علاقة لها بمستقبله ــ خلع الحجاب مثلا وعودة شيكابالا إلى نادى الزمالك ــ لذلك ما أن وقعت على مناقشة جادة ومسئولة لمشكلة مصر الحقيقية والكبرى، فإننى تعلقت بها ووجدت نفسى مدفوعا إلى المشاركة منها. أتحدث عن المقالة التى نشرتها جريدة «الشروق» أمس (الثلاثاء ٢٨/٤) للدكتور زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء الأسبق. ذلك انه عرض فيها أمورا ثلاثة لمعالجة أزمة مصر، تتمثل فيما يلى:
إعادة النظر فى أولويات الإنفاق العام للمفاضلة بين المضى فى تنفيذ المشروعات العلاقة أو استكمال وتحديث وصيانة ما هو قائم بالفعل من مشروعات ــ إعادة فتح ملف الشراكة بين القطاعين العام والخاص فى تمويل وإدارة بعض الخدمات العامة ــ إعادة النظر فى آلية محاسبة المسئولين عن الأحداث المتكررة بحيث لا يظل الكبار فوق حساب ويحمل الطرف الأضعف بتلك المسئولية ويحاسب عليها.
وجدت أن هذه أفكار مهمة تستحق الاستجابة وجديرة بالمناقشة. وأردت أن أكملها بملاحظتين الأولى انها تنطلق من التعويل على السلطة دون أن يكون للمجتمع دور فيها، الثانية ان فكرة المساءلة بما تستصحبه من ثواب وعقاب للمسئولين لا تتحقق إلا فى بيئة ديمقراطية. والملاحظتان لا تريان سبيلا إلى انجاز تنمية حقيقية وإصلاح جذرى لمواطن الخلل والتدهور، إلا فى ظل إصلاح سياسى أجلناه طويلا، ينبغى ان نسارع إلى البدء به، فالمفاضلة بين التطلع إلى المشروعات العملاقة وبين تحسين الخدمات والارتقاء بها، لا يمكن ان يتحقق الهدف منها طالما غاب عنها الطرف المستفيد من تحديث وصيانة الخدمات.
وطالما دارت مناقشتها بين الحريصين على وجاهة التنظيم وإعلان انجازاته، والتجمل بمشروعاته أمام العالم الخارجى. من ثم فإن هذه المناقشة تظل مفتقدة إلى الحياد والموضوعية فى غيبة المشاركة المجتمعية التى لا تتحقق إلا فى بيئة ديمقراطية، والحجة ذاتها تثار حين يتعلق الأمر بحساب المسئولين، وهى القيمة الغائبة فى مصر، منذ غرق عبارة السلام التى مات فيها ١٣٠٠ شخص عام ١٩٩٨، ولم يحاسب أحد عن الجريمة رغم ان تقرير تقصى الحقائق الذى أعدته لجنة مجلس الأمة آنذاك، حدد جهات وأشار إلى مسئوليتها عن الاهمال والتسيب فى القضية. كما لم يحاسب أحد على قتل نحو ألف شاب أثناء تظاهرات ثورة ٢٥ يناير، تماما كما لم يحاسب أحد على عدم تأمين الجنود الذين سقطوا بالعشرات فى سيناء وفى غيرها فى أنحاء مصر، (فى تونس استقال رئيس الأركان بعدما قتل الإرهابيون ١٥ جنديا من حرس الحدود فى جبل الشعانين وتمت الإطاحة بستة من قادة الشرطة بعد وقوع الحادث الإرهابى فى متحف باردو بالعاصمة).
ان استحضار دور المجتمع وإشراكه فى الرقابة والمساءلة هو المدخل الرئيسى لإنجاح جهود الإصلاح. وهذا الحضور المنشود لا يتحقق فقط من خلال الانتخابات البرلمانية النزيهة، ولكنه يستكمل بالانتخابات المحلية التى تشرك المجتمع المحلى فى إدارة شئونه. بسبب من ذلك فإننى أزعم أن الإصلاح السياسى هو الفريضة الغائبة وواجب الوقت. وما لم نبدأ بخطوات جادة لتحقيق ذلك الإصلاح، فكل ما بنى فى غيابه يظل مشوبا بالنقصان ومشكوكا فى جدواه.