توقيت القاهرة المحلي 02:30:57 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الإنساني مقدم على السياسي

  مصر اليوم -

الإنساني مقدم على السياسي

فهمي هويدي

هذه قصة عميقة الدلالة رواها أحد شهودها. فى عام ١٩٩٠ تم اغتيال الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب آنذاك، وتم اعتقال عشرات من عناصر الجماعة الإسلامية جراء ذلك. وكان من بينهم أحد القياديين، هو صفوت عبدالغنى (رئيس المكتب السياسى لحزب البناء والتنمية لاحقا). وقد طلب صاحبنا هذا أن يكون محاميه الأستاذ أحمد نبيل الهلالى القيادى اليسارى المعروف. ولأن الهلالى كان فى ذلك الوقت السكرتير العام لحزب الشعب الاشتراكى، فقد أثير الموضوع داخل قيادة الحزب الذى يفترض أنه فى خصومة سياسية وفكرية مع مشروع الجماعة الإسلامية. وبسبب هذين العاملين (موقفه وموقف حزبه) تبنى البعض الدعوة إلى رفض طلب صفوت، كى لا يعد دفاع الهلالى عنه بمثابة رسالة سياسية معبرة عن التضامن مع الجماعة الإسلامية، الأمر الذى يضر بالحزب ويسىء إليه. إلا أن الأستاذ الهلالى الذى كان مقتنعا ببراءة المتهمين، انحاز إلى قبول المهمة. وكان رأيه ورأى من أيده أنه لا يدافع عن الجماعة الإسلامية ولكنه يدافع عن القانون. وأن أحد أسباب خصومة الحزب للجهاديين الإسلاميين أنهم باستخدامهم العنف يعتدون على حق الناس فى الحياة وفى حرية العقيدة والرأى.

وإذا كان موقفهم ذاك يعد انتهاكا للقانون الذى يدافعون عنه، فإن هذا الفريق رأى أيضا أن الدولة من جانبها لا ينبغى أن تلجأ إلى التنكيل بالمتهمين وتعذيبهم بحجة الحرب على الإرهاب. لأنها فى هذه الحالة تعتدى أيضا على القانون، وذلك ينبغى أن يكون مرفوضا بدوره ولا يقيل السكوت عليه.

رجحت كفة أصحاب الرأى الأخير، وقدم الأستاذ الهلالى مرافعته. فحكم على المتهمين بالإعدام، وحين عرضت القضية على محكمة النقض فإنها برأت معظمهم. وحكمت بالسجن على آخرين ـ كان من بينهم صفوت عبدالغنى ـ حيث أدينوا فى اتهامات أخرى لا علاقة لها بقتل الدكتور المحجوب، منها حيازة سلاح غير مرخص والتزوير فى أوراق رسمية وغير ذلك. وكان صفوت عبدالغنى واحدا من الآخرين، حيث حكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات.

راوى القصة هو الأستاذ عماد عطية، أحد رفاق الأستاذ الهلالى وزميله فى حزب الشعب الاشتراكى. وقد أوردها على الفيس بوك هذا الأسبوع، وذكر فى ختامها أن الهلالى تعرض للتجريح والاتهام من عدد غير قليل من اليساريين أو المحسوبين عليهم. حتى أن إحدهم وصفه آنذاك بأنه «محامى الإرهاب». وقال فى هذا الصدد إن صاحب ذلك الرأى لا يزال حتى الآن يصرخ متبنيا نفس الموقف واللغة.

أهمية القصة تكمن فى أنها تسلط الضوء على إشكالية العلاقة بين الموقف السياسى والفكرى من ناحية والموقف الإنسانى والأخلاقى من ناحية ثانية. وهى المسألة التى كانت محسومة لدى الأستاذ نبيل الهلالى، الذى يصنف ضمن الشرفاء والنبلاء بين اليساريين. فى حين أنها كانت ولا تزال محاطة بضباب كثيف لدى كثيرين من اليساريين وغير اليساريين. إذ كان الموقف الفكرى للهلالى منتقدا ومخاصما لمشروع الجماعة الإسلامية، وفى مرافعته فإنه لم يدافع عن المشروع، ولكنه اختار أن يدافع عن مظلومية موكله ويقاوم العدوان على القانون بالتعذيب
الذى مورس معه ومع أقرانه لانتزاع الاعتراف منهم. بما يعنى أنه انطلق من موقف أخلاقى وإنسانى وانحاز إلى القيمة بأكثر من انحيازه للحسابات السياسية والفكرية.

هذا التميز الواضح بين الهوى السياسى والقيم الإنسانية والأخلاقية هو بين أكثر ما نفتقده فى مصر فى الوقت الراهن، ذلك أنه لا مفر من الاعتراف بأن أجواء الاستقطاب الراهنة والتعبئة الإعلامية المكثفة أزالت الحاجز بين الاثنين، إذ أصبحت القاعدة تتمثل فى تغليب الهوى السياسى. الأمر الذى أدى إلى تسويغ إهدار ما هو أخلاقى وإنسانى. استثنى من ذلك عددا من النشطاء الحقوقيين وقلة من المثقفين الشرفاء ـ النساء والرجال ـ الذين ظلوا قابضين على الجمر ومدافعين عن الموقف الإنسانى طوال الوقت، رغم انتقادهم واعتراضهم على الموقف الفكرى والمشروع السياسى. وقد دفع هؤلاء أثمانا مختلفة جراء ذلك، كان أقلها التجريح والاتهام بموالاة الإرهاب. وهى ذات التهمة التى وجهت إلى نبيل الهلالى قبل ربع قرن حين وصف ـ وهو الماركسى العتيد ـ بأنه محامى إرهاب الجماعة الإسلامية.

المشكلة الآن صارت أعقد وأعمق. ذلك أن الأعداد الغفيرة التى انخرطت فى السياسة بعد ثورة ٢٠١١ بغير سابق ممارسة أو خبرة تشكل إدراكها بواسطة إعلام الثورة المضادة. بحيث تربت على شيطنة الآخر وضرورة إقصائه وإبادته. وهى فى ذلك لم تميز بين ما هو سياسى وما هو إنسانى. وكانت النتيجة أن قطاعات عريضة من الجماهير التى شحنت بمشاعر الكراهية أصبحت تصفق لمذبحة وتهلل لاحتراق عشرات فى سيارة الترحيلات، وتعتبر التعذيب عقابا مقبولا وترى فى إعدام المئات قصاصا عادلا. إلى غير ذلك من المشاعر الملوثة والصادمة التى غدت دليلا كاشفا للمدى الذى بلغه تشوه الوعى وفساده. وهو ما دعانى إلى القول بأن أجواء الاحتقان والاستقطاب لم تستخرج من الناس أسوأ ما فيهم فحسب، وإنما أدت أيضا إلى تراجع وتآكل المشاعر الإنسانية فى بعض الأوساط.

ثمة غلط فى بوصلة الخطاب السياسى والإعلامى، يجعلنا أحوج ما نكون إلى رد الاعتبار للتفرقة الواجبة بين الهوى السياسى والقيم الإنسانية والأخلاقية، بحيث لا يسمح بانتهاك القيم الأخيرة تحت أى مسوغ. وهى بديهية حسمت واستقرت فى العالم المتحضر الذى أرجو أن نلتحق به يوما ما.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإنساني مقدم على السياسي الإنساني مقدم على السياسي



GMT 08:48 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

بيت من زجاج

GMT 08:46 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

إدارة ترامب والبعد الصيني – الإيراني لحرب أوكرانيا...

GMT 08:45 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب ومشروع تغيير المنطقة

GMT 08:44 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا جرى في «المدينة على الجبل»؟

GMT 08:34 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

طبيبة في عيادة «الترند»!

GMT 08:33 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

الشعوذة الصحافية

GMT 08:32 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ولاية ترمب الثانية: التحديات القادمة

GMT 08:31 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

من الرياض... التزامات السلام المشروط

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon