فهمي هويدي
إذا اختلفنا حول تقييم العام المنقضى من ولاية الرئيس السيسى فليتنا نتفق على أن نضع قضية الحريات العامة على رأس أولويات العام الجديد.
(١)
حين اعتدى ضابط شرطة «فارسكور» بحذائه على محامى النقض فإن الحادث كان صادما لا ريب، لكنك إذا دققت فى سياقه فستدرك أنه ليس مفاجئا تماما. وإذا ذهبت إلى أبعد وتحريت ملابساته وخلفياته فى الإطار العام، فقد تجد وجاهة فى اعتبار الحادث عنوانا لمرحلة مصرية جديرة بالرصد والإثبات. ذلك أننا إذا اعتبرنا أن الضابط رفيع الرتبة ممثلا لسلطة الجهاز الأمنى، وان المحامى المجنى عليه رمز لرجل القانون، فسنجد أن الحادث كان فى حقيقة الأمر تعبيرا رمزيا للمدى الذى وصلت إليه العلاقة بين الطرفين. ذلك أن الممارسات التى شهدناها خلال العام الأخير بوجه أخص كشفت عن ان الشرطة باتت تتصرف باعتبارها سلطة فوق القانون. حيث لم تحاسب على كل ما اقترفته من تعذيب أو قتل أو قنص. ولديها من الحيل والنفوذ ما يمكنها من الإفلات من أى عقاب. وهو ما أقنعنا بأن التصرف الذى لجأ إليه ضابط الشرطة هو نتاج ثقافة شائعة تعتبر أن ذلك الاسلوب هو الأصل فى علاقة الشرطة بالمواطن العادى الذى قد يعد ضربه بالحذاء من قبيل التسخين الذى يسبق تأديبه وإعطاءه ما يستحق. وقد شاء حظ ضابط فارسكور أن المواطن الذى وقع بين يديه هذه المرة كان محاميا كبيرا كتبت له الحياة (آخرون قتلوا بسبب التعذيب ولم يمكنوا من الدفاع عن أنفسهم)، ثم إن الأمر أثار غضب زملائه المحامين. واستنفر النقابة والنقيب، الذى لم يتردد فى إدانة ما جرى واعتباره عودة إلى أساليب الدولة البوليسية قبل يناير ٢٠١١.
حادث الاعتداء على محامى فارسكور مجرد صفحة فى سجل حافل بالانتهاكات متعددة المظاهر التى سجلتها تقارير المنظمات الحقوقية، وأحدث تلك المظاهر تمثلت فى حملة الاختفاء القسرى الذى جرى التوسع فيه خلال الأسابيع الأخيرة. إذ فجر الحادث الأزمة مع المحامين، فإن ذلك تزامن مع أزمة أخرى للداخلية مع أساتذة الجامعات الذين استفزتهم انتهاكات الشرطة لحرمها والضغوط التى يتعرضون لها وأحدثها اشتراط موافقة الأمن على المشاركة فى المهام العلمية بالخارج. ثمة أزمة ثالثة مع المنظمات الحقوقية التى جرى التنكيل بأعضائها فمنعوا من السفر واحتجزوا فى المطارات وجرى التحقيق مع إحداها لأنها تجرأت واقترحت مشروعا لمنع التعذيب. ذلك غير الأزمة مع نقابة الصحفيين جراء اعتقال ٦٢ من أعضائها لأول مرة فى تاريخ النقابة. ثم هناك أزمة الداخلية مع نشطاء ٦ أبريل وغيرهم من شباب ثورة يناير الذين اعترضوا على قانون التظاهر أو المحاكم العسكرية. ولا ننسى فى هذا السياق التدخلات والضغوط الأمنية على مقدمى البرامج التليفزيونية، الأمر الذى أدى إلى وقف بعض البرامج (باسم يوسف، مريم ماجد ويسرى فودة مثلا)، وانتهى باستقالة مدير قناة «أون تى فى» ألبرت شفيق... إلخ.
(٢)
صحيح أن الأجهزة الأمنية هى الطرف الظاهر فى الأزمات والممارسات سابقة الذكر، إلا أننا نخطئ إذا اكتفينا بتوجيه الانتقاد أو الاتهام لتلك الأجهزة أو وزارة الداخلية وحدها، لأن الاخيرين إذا كانوا هم الفاعلون، إلا أنهم ينفذون سياسة دولة فى حقيقة الأمر. لذلك أزعم أن الملف الأمنى ينبغى أن يوضع على رأس قائمة الملفات التى ينبغى أن تفتح فى سياق عملية التقييم المثارة الآن لخبرة العام الأول من حكم الرئيس السيسى، الذى حلف اليمين الدستورية وتسلم منصبه رسميا فى الثامن من شهر يونيو عام ٢٠١٤.
لقد اعتذر الرئيس فى حديثه أمس الأول بمناسبة بدء العام الثانى لولايته عن إساءات الشرطة، ووجه حديثه إلى المصريين عامة وإلى المحامين بوجه أخص، لأسباب مفهومة. وذلك موقف نبيل من الناحية الأخلاقية، لكنه ليس كافيا ولا شافيا من الناحية السياسية والعملية، ذلك ان تصرف ضابط شرطة فارسكور والانتهاكات أو الإساءات التى تصدر عن الشرطة بحق المواطنين ليست أخطاء فردية، ولكنها تنفيذ ردىء لسياسة الدولة، حوله إلى ثقافة سائدة فى قطاع كامل يحتاج إلى إعادة نظر فى السياسات التى يهتدى بها ويكلف بتنفيذها، وفى الأساليب التى يستخدمها. وذلك كله لا يعالج بالاعتذار الذى قد يهدئ النفوس ويرطب الأجواء، ولكنه لا يقوم العوج ولا يعالج الداء.
إننا ينبغى أن نحترم الاعتذار ونحتفى به، لكن من حقنا ان نقول إنه حين ألغيت السياسة وجرى التعويل على الأمن فى كل ملفات الشأن الداخلى، فإن تغول الأجهزة الأمنية يصبح شيئا طبيعيا وإطلاق يدها فى تقرير مصائر البشر دون حساب يغدو أمرا متوقعا ومفهوما.
لقد أصدرت رئاسة الجمهورية تقريرا عن انجازات الرئيس السيسى فى عامه الأول. وكانت الملاحظة الأساسية على التقرير أنه ركز على الاقتصاد وتجاهل السياسة. وما ذكره كان صحيحا وان عبر عن الطموحات بأكثر مما وصف الواقع، لكن ما سكت عنه أو تجاهله له دلالاته التى تؤيد ما أدعيه. وهى الملاحظة التى لا تخطئها عين الباحث. وأحدث شهادة فى هذا الصدد وقعت عليها فيما كتبه الدكتور عمرو الشوبكى أمس (٨/٦) فى جريدة «المصرى اليوم» حيث ذكر أن «غياب الرؤية السياسية والتجاهل التام للواقع السياسى الذى تعيشه البلاد مشكلة رئيسية فى التقرير الرئاسى».
لقد قرأنا أن الرئيس افتتح فى مناسبة بداية عامه الجديد ٣٩ مشروعا جديدا بتكلفة ٥ مليارات و٨٨٤ مليون جنيه، لكننا لم نقف على أى ملمح مضىء فى الأفق السياسى يطمئننا إلى أننا نتوقع انفراجا فى العام الجديد. بالتالى فإننا لم نجد أملا فى طى صفحة القوانين الظالمة وانتهاكات حقوق الإنسان ويوقف ملاحظة منظمات حقوق الإنسان، والتوسع فى المحاكمات العسكرية. انتهاء بإيجاد مخرج لمشكلة وجود أكثر من ٤٢ ألف مواطن فى السجون والمعتقلات منذ أكثر من عامين تقريبا.
(٣)
قبل أى استطراد فى الموضوع ينبغى أن نتفق على ان إجراء عملية التقييم بعد مضى عام واحد على استلام السلطة لا يخلو من تعجل وتعسف، خصوصا فى بلد كبير مثل مصر له مشاكله العديدة على مختلف الأصعدة. مع ذلك فبوسعنا أن نسترشد بالمؤشرات والمقدمات التى برزت خلال العام المنقضى. ذلك اننا لا نستطيع ان نزعم ان العام المقبل سيكون منفصلا أو مقطوع الصلة بالعام الذى سبقه. كما اننا لن نبالغ إذا قلنا إن ما تم زرعه خلال العام المنقضى سنجنى بعض حصاده على الأقل فى العام الجديد.
سنضيع أو نغرق إذا دخلنا فى التفاصيل. وربما أفادنا فى هذا الصدد ان نسترشد بالتفريق بين السياسة التى تمثل الخطوط أو المحاور الأساسية والإدارة التى تتولاها الأجهزة التنفيذية. وأزعم فى هذا الصدد ان جهدا كبيرا يبذل فى الإدارة يتمثل فى الأداء النشط للحكومة تبذله الحكومة أو فيما تنهض به القوات المسلحة فى العديد من المجالات. وذلك شق ليس لى فيه كلام، ناهيك عن صعوبة الإحاطة بتفاصيله. ولكنى معنى بتوجهات السياسة التى تعبر عن الرؤية الاستراتيجية للنظام القائم. فى هذا الصدد بوسع المرء أن يسجل النقاط التالية:
١ــ إن مصر لم تخرج تماما من عباءة نظام مبارك السابق على ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ الذى تمت تبرئة كل رجاله، وكأن أحدا منهم لم يخطئ بحق الشعب وان الذين قاموا بالثورة هم المخطئون. فالسياسة الخارجية التى تجنب الباحثون التطرق إليها لم تطرأ عليها تغير سوى فى الدرجة فقط.
فالعلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ظلت كما هى والعلاقات مع إسرائيل فى أفضل أحوالها، فى حين أن العلاقة مع حماس والمقاومة الفلسطينية انتقلت من سيئ إلى أسوأ. أما السياسة الداخلية فبدورها لم تتغير فى إطارها العام. وشهادات الدكاترة إبراهيم العيسوى ومحمود عبدالفضيل وإبراهيم عوض ومصطفى كامل السيد وأحمد عبدربه وغيرهم من أساتذة الاقتصاد والعلوم صريحة وحاسمة فى هذا الصدد.
٢ــ إن فكرة العدالة الانتقالية التى هى بمثابة الجسر الذى يضمن الانتقال من نظام استبدادى إلى نظام آخر ديمقراطى جرى ابتذالها وإجهاضها، لأن الانتقال لم يتم ولم يعد مرغوبا فيه. ذلك ان تلك العدالة المنشودة كما يعرفها أهل الاختصاص ترتكز على عناصر أربعة هى: الكشف عن الحقيقة ومحاسبة مرتكبيها ــ تعويض الضحايا وجبر أضرارهم ــ إرساء مصالحة وطنية بين الدولة والمواطنين ــ القيام بإصلاحات سياسية وقانونية لإرساء دولة الحق والقانون، ولمنع حدوث أى انتهاكات لحقوق الإنسان. لكن كل الذى فعلناه أننا أنشأنا وزارة للعدالة الانتقالية عصفت بكل ذلك، ودخلت فى نفق الإصلاحات التشريعية ولم تخرج منه.
٣ــ افتقد النظام القائم إلى وضوح الرؤية السياسية والاقتصادية. وإذ ظل الغموض يكتنف هاتين الدائرتين، فإن الغموض ذاته ظل مخيما على آلية صنع القرار السياسى. وفى حين لم تتضح وجهة النظام على الصعيدين السياسى والاقتصادى، فإن أحدا لم يعرف من وكيف يصدر القرار السياسى ولا ما هى طبيعة الورش المحيطة بالرئيس. الأمر الذى أبقى على الرئيس السيسى وحده فى صدارة المشهد، وحمله ربما بأوزار غيره.
٤ــ حين تصدرت لافتة «الإرهاب» رأس عناوين السنة الماضية وجند الخطاب التعبوى كل منابره لأجل ذلك، فإن ذلك عبر عن وجود مشكلة حقيقية لا ريب، لكن تلك المشكلة لا تصلح لأن تكون مشروعا سياسيا. ومع استمرار حلقات العنف وعدم وجود أفق لحل المشكلة، فإن المجتمع أصبح يدور فى حلقة مفرغة لا نهاية لها. وإزاء انسداد الأفق السياسى فإن الأمل فى الاستقرار ومن ثم دوران عجلة النشاط الاقتصادى أصبح أمرا بعيد المنال.
٥ــ الحديث عن التراجع الكبير فى مجال الحريات العامة أصبح قاسما مشتركا فى التعليقات التى حاولت تقييم خبرة السنة الماضية. وللأسف فإن ذلك استصحب تراجعا مماثلا فى الثقة بالقضاء المصرى الذى كان ضحية قوانين جائرة وتحريات ملفقة ورطته فيما شوه صورته على نحو يتعذر إصلاحه فى الأجل المنظور.
(٤)
للأسف فإنه فى ظل الاحتقان والاستقطاب المخيمين على المجتمع المصرى فإن فرصة إجراء تقييم موضوعى ونزيه لتجربة السنة الماضية ليست متاحة، ليس فقط بسبب العصبية التى يتسم بها أغلب المتحاورين، ولكن أيضا بسبب الترهيب والتخويف الذى يتعرض له أصحاب الرأى الآخر. والرسائل والإنذارات التى توجه عبر المتحدثين المنسوبين إلى النظام أو من خلال التقارير التى تسرب عن ترتيبات ومخططات الأجهزة الأمنية، ذلك كله يدفع كثيرين إلى الصمت إيثارا للسلامة. وإذا صح ذلك التحليل فإنه يعنى أن مشكلة الحريات العامة وضماناتها هى التحدى الأكبر الذى علينا أن نواجهه فى العام الجديد. وإذا كان الحقوقيون يجمعون على أن العام المنصرم هو الأسوأ فى الانتهاكات التى عرفتها مصر خلال العقدين الأخيرين على الأقل، فإن ذلك يلقى على عاتق كل الوطنيين فى مصر مسئولية الاحتشاد لوقف ذلك التدهور، الذى أزعم أنه الإشارة الأهم إلى تفريغ ثورة يناير ٢٠١١ من مضمونها، والعلامة الأبرز على عودة النظام القديم.. وكأنك يا أبوزيد ما غزيت.