فهمي هويدي
واقعة وقف بث برنامجين تليفزيونيين معروفين فى مصر بتبعيتهما للأجهزة الأمنية يعد حدثا مهمـًا يثير العديد من الأسئلة ويفتح ملف اللعب الحاصل فى الإعلام المصرى. فأحد البرنامجين تخصص فى التشهير بالنشطاء والمعارضين السياسيين، من خلال بث التسجيلات التى تجريها الأجهزة الأمنية لمحادثاتهم الهاتفية. وكان مفهوما أن تلك الأجهزة هى التى تتولى تسريبها، وهى التى تخيرت من يقدمها والمنبر الذى تطلق منه. ولم يكن سرا أن قناة البث التى وقع الاختيار عليها مملوكة لأحد رجال الأعمال وثيقى الصلة بالنظام السابق. كما لفت الانتباه أن مقدم البرنامج الذى تم إيقافه، ما أن قطع إرسال برنامجه حتى أعلن أنه بصدد إنشاء قناة جديدة تحمل اسم البرنامج الذى تم إيقافه.
إذا حاولنا قراءة المعلومات سابقة الذكر بتلخيص وتركيز أكثر فسنجد أننا بصدد نموذج لبرنامج تليفزيونى تقف وراءه المؤسسة الأمنية، يبث من قناة مملوكة لرجل أعمال من أعوان النظام السابق، وأن الشخص الذى تولى تقديم البرنامج توافرت له قدرة تمويله جعلته يعلن اعتزامه تأسيس قناة جديدة، بعد ساعات من إيقاف برنامجه. ويسلط الضوء على هذه النقطة الأخيرة أن صاحب البرنامج الذى نعرفه متواضع القدرة المالية قبل سنوات قليلة ارتبط بعلاقات وثيقة مع سلطات أبوظبى حيث تعاون معها فى مجالات عدة بدعوى مكافحة الإرهاب، وبقدرة قادر أصبح على رأس مؤسسة فى القاهرة تصدر صحيفة غير مقروءة وترعى مركزا للدراسات استقطب عددا من الباحثين ويقوم ببعض الأنشطة الثقافية، ذلك بالإضافة إلى القناة الجديدة التى يعتزم إنشاءها.
ما يهمنا فى القصة هو تعدد الأطراف المشاركة فى المشهد من ناحية. إلى جانب التساؤل من ناحية ثانية عن هوية الجهة التى أوقفت البرنامجين، وهل هى ضمن الأطراف الثلاثة الذين سبقت الإشارة إليهم، أم أنها جهة رابعة لم تسترح إلى ذلك النوع من الأداء.
ليس بمقدورى الإجابة على ذلك التساؤل، ولكن ما أعرفه أن الاختراقات الحاصلة فى الساحة الإعلامية ليست مقصورة على برنامج أو اثنين، ولكنها ظاهرة عامة فى كل القنوات الخاصة على الأقل، بل وفى الصحف الخاصة أيضا. ولست فى ذلك أبرئ الإعلام الرسمى لأن الأصل فيه أنه تابع السلطة ومخترق بكامله من جانبها.
للإنصاف أضيف أن ذلك الاختراق ليس جديدا. ولكن منذ أدركت السلطة فى مصر أو غيرها قوة الإعلام وخطورته وفعاليته فى التأثير والتوجيه، فإنها حرصت على اختراق وسائله والاستحواذ عليها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وهو ما يسوغ لى أن أقول إن اختراق وسائل الإعلام بات أصلا خصوصا فى الدول غير الديمقراطية. أما الحياد فقد ظل استثناء لا حكم له ولا يقاس عليه.
إذن فليس السؤال هو ما إذا كان الإعلام مخترقا أم لا؟ لأن ذلك بات أمرا مفروغا منه. ولكنه ينصب على الطرف أو الأطراف التى تمارس ذلك الاختراق والأهداف التى تتوخاها. وإذا قمنا بتنزيل هذه الفكرة على الواقع الراهن فى مصر فسنجد أن أهمية البلد ومحوريته وتأثيره القوى فى العالم العربى جذبت أطرافا عدة لكى تثبت حضورا فى ساحته الإعلامية. وتمارس تأثيرا فى مجريات الأمور بها. وحين أشرت قبل قليل إلى دور المؤسسة الأمنية ورجال الأعمال وأعوان النظام السابق والمال الخليجى، فإن ذلك كان على سبيل المثال وليس الحصر. لأننا ينبغى ألا نتوقع أن يكون ذلك حاصلا فى مصر، بينما تقف الأطراف الأخرى فى المنطقة متفرجة عليه.
من بين الأسئلة التى يثيرها المشهد ما يلى: ما هو موقف السلطة القائمة فى مصر مما يجرى فى الساحة الإعلامية؟ ردى على السؤال من شقين. الأول يتعلق بترتيب أوضاع النظام الجديد. الذى أزعم أنه لايزال تحت التشكيل، وأن ثمة مساحات فيه لم تتبلور صورتها النهائية بعد. وهو ما يذكرنا بأوضاع مصر فى أعقاب ثورة يوليو 1952 حيث تولى أمرها «مجلس قيادة الثورة» وظل عدة سنوات يقلب أمره ويتحرى مواضع أقدامه.
رغم أن الوضع آنذاك اختلف من زاويتين، الأولى أن أغلب أعضاء مجلس الثورة كانت لهم خلفيتهم وخبراتهم السياسية النسبية باعتبار أنهم كانوا من «الضباط الأحرار»، فى حين أن المجموعة العسكرية التى تولت الأمر فى مصر منذ الثالث من يوليو 2014 (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) جاءت كلها من خارج السياسة، بعدما جفف منابعها فى الجيش نظام مبارك طوال ثلاثين سنة. الثانية أن مصر آنذاك (عام 1952) كانت تعيش حالة سياسية لا تقارن بالجدب السياسى الذى تعانى منه مصر الآن.
الشق الثانى أن النظام المصرى وهو تحت التشكيل الآن لاتزال تتعدد فيه وجهات النظر والأجنحة، حتى فى بعض المستويات العليا. الأمر الذى يسوغ لنا أن نقول بأنه ليس كل ما يحدث فى المجال العام معبرا بالضرورة عن توجهات السلطة المركزية أو حتى رئاسة الجمهورية. وفيما فهمت فإن رئيس الجمهورية الذى أعطى أولوية قصوى لعملية الإنجاز، سكت على بعض الممارسات وحملات تجريح بعض الشخصيات العامة التى لم يكن راضيا عنها، ليس قبولا بها ولكن صبرا عليها. وقد استشف ذلك الإعلاميون الذين التقوه مؤخرا، سواء حين أبدى ملاحظاته على أداء نفر منهم أو حين دعى البعض إلى حضور اللقاء فى حين استبعد آخرون ممن حاولوا فرض أنفسهم كمتحدثين باسم السلطة. وقيل لى إن أحدهم نبه إلى ذلك صراحة. وعلى كثرة التسريبات التى تروج حول موقف السلطة مما يجرى فى الساحة الإعلامية، فما نشهده على البعد يظل دالا على أن الجزء الغاطس من المشهد أكبر بكثير مما ظهر منه على السطح.