رجاء: كفوا عن التلويح بالمؤامرات الخارجية التى تستهدف مصر، لأن العلة تكمن فى الداخل.
(١)
أحد الأسئلة التى تداولتها مواقع التواصل الاجتماعى فى الأسبوع الماضى كان كالتالى: لماذا صدر حكم البراءة فى قضية «الآداب» خلال أسبوع، فى حين أن من تثبت براءتهم فى القضايا السياسية لا يخلى سبيلهم قبل سنتين؟. السؤال ردده البعض بعد صدور الحكم الذى قضى بتبرئة ممثلة اتهمت بإدارة شبكة لممارسة الأعمال المنافية للآداب، وهو ما تم خلال أيام قليلة من إلقاء القبض عليها. ولأن ذلك تزامن مع حكم آخر صدر بإخلاء سبيل ٢٣ شخصا كانوا قد اتهموا فى بعض القضايا السياسية فى أواخر عام ٢٠١٣، فإن المدونين لم تفتهم الملاحظة، وأخذوا راحتهم فى الاستنكار والغمز فى التفسير. كان للسؤال رنينه عندى، لأننى تلقيت فى نفس الأسبوع رسالة استغاثة احترت فى شأنها من شخص لا أعرفه اسمه إيهاب طلعت خميس قدم نفسه باعتباره أحد نزلاء سجن طرة تحقيق (عنبر ٤). وفهمت أنه أملاه على غيره لأنه ذكر أنه لا يعرف القراءة أو الكتابة، وليست له علاقة بأية جماعة دينية أو سياسية، لكنه ألقى القبض عليه منذ عامين أثناء الاعتقالات العشوائية التى أعقبت اقتحام قسم شرطة حلوان. ومنذ ذلك الحين لا حقق معه ولا قدم للمحاكمة ولا يعرف شيئا عن مصيره. وكل ما يعرفه أن أسرته هدمت وأن زوجته وأطفاله الثلاثة يعيشون فى ضنك وكرب شديدين. لم يشك من تعذيب أو مرض. لكن عذابه الأكبر تمثل فى شعوره بالمظلومية ويأسه من الخروج من السجن واقتناعه بأنه يمكن أن يقضى بقية عمره وراء جدرانه، لأنه مواطن مجهول، لا يلتفت إليه أحد أو يذكره.
لا أعرف كم مظلوما مثله جرفهم إعصار الاعتقالات العشوائية الذى ضرب مصر فى تلك الفترة، ولايزالون فى السجون منذ تلك الفترة، بعدما أطلقت مدة الحبس الاحتياطى للإمعان فى التنكيل بالأبرياء. لكننى أذكر أن رئيس الجمهورية وعد فى إحدى خطبه بالإفراج عن المظلومين من أمثال إيهاب طلعت خميس. وتحدثت الصحف عن قوائم بأسمائهم يجرى إعدادها، ثم صرف النظر عن الموضوع حتى وجدنا أن الفصل فى قضايا الآداب صار مقدما على الفصل فى القضايا السياسية. وإذ فقد الجميع الأمل فى إطلاق سراح المظلومين، فإن طموح الأهالى لم يعد يتجاوز حدود السماح بزيارة المسجونين وتوفير الأدوية والأغطية والأغذية لهم، وصار جهد المنظمات الحقوقية محصورا فى المطالبة بوقف التعذيب وإنهاء الاختفاء القسرى ونقل المشرفين على الموت إلى المستشفيات لعلاجهم. وهو ما سجلته ووثقته تقارير تلك المنظمات فى داخل مصر وخارجها. كما أثير الموضوع فى العديد من المحافل الدولية، وعلى رأسها مقر الأمم المتحدة فى جينيف. الأمر الذى حول المشكلة إلى فضيحة.
(٢)
ما عاد سرا أن سجل مصر فى مجال حقوق الإنسان لم يعد فى صالحها، إذ ظل سلبيا طول الوقت قبل الثورة وبعدها. لكن الأضواء سلطت بدرجة أكبر بعد الثورة على اعتبار أن مصر شهدت تحولا جذريا يفترض أن يقدمها بصورة مغايرة، إلا أن ممارسات الواقع التى تمثلت فى إصدار القوانين المقيدة للحريات وفى شيوع انتهاكات حقوق الإنسان بينت أن النظام تغير فى مصر حقا لكن السياسة لم تتغير. وصارت المنظمات الحقوقية الدولية أكثر اهتماما بما يجرى فى مصر منذ وقعت أحداث العنف التى شهدتها البلاد عام ٢٠١٣ وما بعدها، وهى التى استصحبت صراعات حفلت بالانتهاكات الصادمة، التى تضاربت بشأنها الروايات كما تباينت تقديرات الضحايا.
فى خارج مصر لم تكن المنظمات الحقوقية الدولية وحدها التى تتابع ما يجرى، لأن الاتحاد الأوروبى دخل على الخط. إذ كان له رأيه وجهده الذى بذله لتهدئة الأوضاع فى الداخل، من خلال مبعوثية الذين أوفدهم إلى القاهرة فى عام ٢٠١٣. (قامت بالمهمة السيدة كاترين آشتون مسئولة السياسة الخارجية). كما أنه أصدر بيانا دعا فيه إلى وقف العنف وإدانة عمليات القمع التى استهدفت بعض الصحفيين والمثقفين والمنظمات غير الحكومية.
ما أريد أن أقوله أن الاتحاد الأوروبى ومعه البرلمان الأوروبى الذى يضم أعضاء منتخبين يمثلون ٢٨ دولة، كانا فى الصورة طول الوقت. لذلك فإن النقد الذى تضمنه بيان البرلمان المذكور لسجل مصر فى مجال حقوق الإنسان كانت له خلفياته التى استند إليها. ومن التبسيط أن يقال بأن البرلمان استند إلى معلومات مغلوطة لأن ذلك غير صحيح. ومن الخفة أن يقال إن أعضاءه «قبضوا» من الإخوان، لأن ذلك غير معقول خصوصا أن البيان صوت لصالحه أغلبية ساحقة من البرلمانيين المعتدلين والمحترمين (٥٨٥ برلمانيا)، وقرأت فى شهادة منشورة لمستشار الشئون الخارجية فى البرلمان، وهو مصرى اسمه شمس الغنيمى، أن الذين صوتوا لصالح البيان هم أصدقاء مصر الحقيقيون الذين يحرصون على نهوضها وتصويب مسارها. أما الأعضاء العشرة الذين صوتوا ضد القرار فهم يمثلون عنصرى اليمين الفاشى والمتطرف الذين يؤمنون بأن العرب والمسلمين أقل قيمة من الأوروبيين، أما التسعة والخمسون عضوا الذين امتنعوا عن التصويت فهم يمثلون اليمين العنصرى فى فرنسا ونظراءهم فى بعض الدول الأوروبية الأخرى الذين لا تهمهم مصر، فى حين يقودون حملات رافضة لحقوق المهاجرين العرب والمسلمين فى أوروبا (الشروق ١٨/٣).
انتقاد السجل الحقوقى لمصر ليس مقصورا على الأوروبيين، لأن وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى أصدر بيانا يوم السبت الماضى (١٩/٣) أعرب فيه عن القلق العميق إزاء تدهور الحريات فى مصر. وكان ذلك بمناسبة إحياء قضية تمويل المنظمات غير الحكومية فى مصر. ورفض السماح لبعض النشطاء بالسفر للخارج ومنعهم من التصرف فى أموالهم وممتلكاتهم، وإلى جانب هذا وذاك فإن ما نشرته كبريات الصحف العالمية كان أكثر صراحة وقسوة، خصوصا أن قضية تعذيب وقتل الباحث الإيطالى ريجينى وتفصيلاتها المرعبة ظلت ماثلة فى الأذهان وكامنة فى خلفية الانتقادات الحادة والجارحة للنظام القائم فى مصر.
(٣)
كيف واجهت مصر هذا الموقف؟ ــ لم يكن الصدى مفاجئا. فوزارة الخارجية التزمت بموقف إنكار وجود التجاوزات التى وصفها مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بجينيف بأنها «مزاعم» انبنت على معلومات غير موثوقة. ونفى أن يكون فى مصر اختفاء قسرى أو احتجاز خارج القانون أو تعذيب أو حظر للتظاهر. ووزير الخارجية استنكر كلام نظيره الأمريكى واعتبره وصاية مرفوضة وتدخلا فى الشأن الداخلى المصرى لا يجوز. أما وسائل الإعلام المصرية فقد قامت بدورها فى الرفض والتنديد، حتى إن جريدة «المصرى اليوم» تحدثت عن «أسبوع الطعنات الأمريكية والأوروبية ضد مصر» أما تعليقات الكتاب على الموضوع فإنها عادت إلى التحذير من استهداف مصر والمؤامرات التى تدبر ضدها والعداء الذى تكنه بعض الدوائر الغربية والإقليمية ضدها. ولم يخل الأمر من غمز فى دور التنظيم الدولى ومخططاته لإسقاط الدولة المصرية.
بصورة عامة فإن رد الفعل المصرى السياسى والإعلامى عبر عن الاستنفار للدفاع عن النظام فى خطاب تبنى موقف الإنكار والتبرير الذى التزمت به وزارة الداخلية طول الوقت. الأمر الذى وضعنا إزاء مشهد لا يخلو من مفارقة. ذلك أن الردود المصرية لم تقنع الناقدين فى الخارج ولا الحقوقيين والنشطاء فى الداخل، حتى بدا وكأن الخطاب السياسى والإعلامى يخاطب السلطة المصرية بالدرجة الأولى. وهو فعل أقرب إلى إبراء الذمة وسد الخانة منه إلى التصويب والمراجعة والسعى لإقناع الآخر وكسبه. ولفت الانتباه فى هذا الصدد أن مجلس النواب المصرى قرار إيفاد وفد برلمانى من ١٢ عضوا للالتقاء بأعضاء البرلمان الأوروبى فى بروكسل وتوضيح الموقف الرسمى إزاء مقتل الباحث الإيطالى وملف انتهاكات حقوق الإنسان فى مصر. وهى الإيضاحات والردود التى تحدث عنها مندوب مصر لدى المنظمة الدولية التى ترفع شعار «كله تمام» والحق على الأوروبيين والطليان ومعلوماتهم المغلوطة والمدسوسة... إلخ.
(٤)
إذا اكتفينا بتلك الجهود فمعنى ذلك أن الأفق سيظل مسدودا وان أملنا فى الانفراج سيظل مرحلا إلى أجل غير معلوم. وتلك مغامرة خطرة وسيناريو غير مأمون العاقبة. لست مشغولا بالتجمل فى أعين الغربيين أو استرضائهم، لأن الأهم هو الحفاظ على كرامة المصريين ورفع الإصر عنهم. وبالتأكيد لا تسرنا انتقادات الغربيين ولا تحفظاتهم. ولا يحتاج المرء إلى إثبات رفضه للتدخل فى الشأن الداخلى المصرى، لكنه لا يستطيع أن يخفى دهشته إلى القبول بذلك التدخل فى مجالات أخرى أحدثها التفتيش على درجة الأمان فى المطارات المصرية بعد حادث الطائرة الروسية. ثم رفضه فى مسألة حقوق الإنسان التى صارت شأنا عالميا، بحيث لم يعد من حق أى زعيم أو نظام أن يشهر فى وجه المجتمع الدولى شعار: شعبى وأنا حر فيه!
لا أبرئ الموقف الغربى الذى يكيل بمكيالين، بحيث يغض الطرف عن انتهاكات الإسرائيليين فى الأرض المحتلة، فى حين يدعى الغيرة والشجاعة حين يتعلق الأمر بنا، لكن ذلك ينسحب على مواقف الدول والساسة ولا ينطبق على أغلب المنظمات الحقوقية. ثم أنه لا يبرر استمرار الانتهاكات عندنا واستمرار قهر وقمع شعوبنا.
الشىء الذى لابد أن نفهمه، وأزعم أنه بمثابة الفريضة الغائبة، أن وجهة الإدارة السياسية فى الداخل لابد أن تتغير، وأن قضية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان تحتاج إلى مراجعة جذرية ترد إلى تلك القيم اعتبارها وتعيد إليها أولويتها. بالمناسبة فليس صحيحا أن هناك مؤامرة على مصر رغم الزوابع التى يثيرها البعض ضدها فى الخارج. ثم إن مصر الراهنة لم تعد تقلق خصومها التاريخيين كما أن ضعفها المخيم يوفر للذين لا يتمنون لها الخير مرادهم دونما جهد يبذلونه من جانبهم، إنما المؤامرة الحقيقية التى ينبغى أن يستنفر الجميع لإجهاضها فهى تلك التى تهدر قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهى مؤامرة تنسج فى الداخل ولا تداهمنا من الخارج، رغم أن دولا إقليمية قد تكون ضالعة فيها.
إذا صح ذلك التحليل فمعناه أن الأمر يحتاج إلى توافر إرادة سياسية تصحح الخلل وتجهض المؤامرة التى تنسج فى الداخل بعيدة عن الأعين فى دوائر لا نعرف خرائطها لكننا نلمس آثارها فى القرارات المتضاربة والمواقف المتباينة، الأمر الذى يشير إلى أن دائرة القرار السياسى تعانى من تعدد الأقطاب والجزر. وهو وضع إذا استمر فإنه يضطرنا إلى تأجيل طموحاتنا فى المراجعة والتصويب، كما أنه يضعف من ثقتنا واطمئنانا إلى المستقبل. إذ إنه يعيد إلى أذهاننا حكاية البيضة والدجاجة، فلا نعرف بأيهما نبدأ بتصويب القرار السياسى أم بحل أزمة الجهة التى تصدره.