فهمي هويدي
مجمل التطورات التى نشاهدها تطرح بقوة السؤال التالى: هل يمكن ان يصبح العالم العربى أثرا بعد عين؟.. مسوغات السؤال تطرحها المشاهد الأربعة التالية.
(١)
<< المشهد الأول: يحتار المرء ولا يعرف هل يضحك أم يبكى حين يتابع المناقشات التى جرت فى مؤتمر «هرتسليا» حول مخاوف إسرائيل من تصاعد الحملة الأوروبية الداعية إلى مقاطعتها أكاديميا واقتصاديا، فى حين يجد ان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يراهن على تعزيز تحالفه مع العالم العربى. وهى مفارقة تكتسب عمقا خاصا إذا تذكرنا ان الطرف العربى كان يوما ما يعتبر أن فلسطين قضيته المركزية وان إسرائيل عدوه الاستراتيجى الأول.
لا يتسع المجال لاستعراض المناقشات التى جرت حول المخاوف الإسرائيلية من التحولات الأوروبية، فيما خص المقاطعة ومآلاتها (شمعون بيريز اعتبرها من أشكال الحرب) لكننى وجدت تعبيرا عن تطلعات نتنياهو فى التقرير الذى نشرته «الإيكونوميست» البريطانية فى عدد ١٣ يونيو الحالى. وقد وجدت ان أفضل ترجمة لعنوانه هل ان العرب والإسرائيليين أصبحوا «فى الهوى سوا»، كما يقول المثل المصرى الشائع. ذلك ان المجلة الرصينة رصدت مظاهر العداء بين الجانبين وانتقالهما إلى طور التفاهم والتعاون الذى تحول إلى تحالف غير معلن. فتحدثت عن المشاركة السعودية والإسرائيلية العلنية فى أحد المؤتمرات البحثية التى عقدت فى واشنطن فى الرابع من شهر يونيو (الإشارة إلى اللواء السابق أنور عشقى رئيس أحد المراكز البحثية فى جدة الذى ظهر فى الصور وهو يصافح دورى جولد أحد أبرز مستشارى رئيس الوزراء الإسرائيلى، وقد صرح الأخير بأن ذلك ليس أول لقاء بينهما ولكنه الخامس). إلا أن التقرير أشار إلى أن العلاقات السعودية ــ الإسرائيلية لها تاريخ، ذلك ان الطائرات الإسرائيلية أسهمت فى نقل المرتزقة الذين كانوا يحاربون إلى جانب الملكيين من قواعدهم فى السعودية ضد الجيش المصرى الموجود فى اليمن فى ستينيات القرن الماضى. كما أن الأمير بندر بن سلطان كان على اتصال بالإسرائيليين فى ثمانينيات القرن الماضى أثناء عمله سفيرا لدى واشنطن. ونوهت إلى أن الأمر ليس مقصورا على السعودية، لأن النظام السورى بقيادة حافظ الأسد وابنه بشار حافظا على سلام ايجابى مع إسرائىل ولم يطلقا رصاصة واحدة على إسرائيل منذ أربعين عاما، فى حين قام الجيش السورى بتدمير مخيم اليرموك الذى يقطنه الفلسطينيون فى دمشق. كما ان الرئيس عبدالفتاح السيسى ذكر فى حوار صحفى أنه تحدث كثيرا مع نتنياهو أثناء الاجتياح الإسرائيلى لغزة عام ٢٠١٤ وكان له موقفه الحازم فى مواجهة حركة حماس. ونقل التقرير على لسان رجل المخابرات الإسرائيلية السابق يوسى الفر ان الجميع فى العالم العربى اقبلوا على شراء طائرة درون الإسرائيلية بغير طيار.
من المعلومات المهمة التى ذكرها التقرير أيضا ان نتنياهو يراهن على تعويض المقاطعة الأوروبية بصداقاته المتنامية من العرب. واستشهد فى ذلك بنتائج استطلاع للرأى أجرته أخيرا إحدى المنظمات الإسرائيلية حول اتجاهات الرأى العام فى السعودية، وتبين منه ان ١٨٪ من العينة تعتبر إسرائيل عدوا، و٢٢٪ قالوا ان داعش هى العدو، فى حين ان ٥٣٪ قرروا ان العدو هو إيران. ورغم الحذر الواجب فى التعامل مع تلك النتائج والجهة التى أجرت الاستطلاع وتوقيته من حيث تزامنه مع بروز الدور الإيرانى فى اليمن، فإن دلالاتها لا يمكن تجاهلها.
(٢)
<< المشهد الثانى: فى أجواء الالتباس أصبح السؤال من «هو العدو» واردا وباب الاجتهاد فيه مفتوحا. لن تستطيع ان تأخذ على محمل الجد الشطحات التى ترددت فى الفضاء الإعلامى المصرى مشيرة إلى ان العدو هو الإخوان تارة وحركة حماس تارة أخرى، لأنها كانت تعبيرا عن الغلو فى الشيطنة المتأثرة بالصراع السياسى الحاصل فى مصر، إلا أن ما أثاره الإعلام الخليجى والسعودى منه بوجه خاص جدير بالملاحظة. ذلك ان المخاوف التقليدية من الطموحات الإيرانية، تضاعفت بعد الظهور الإيرانى فى الساحة اليمنية، ومع احتمالات الاتفاق حول البرنامج النووى الإيرانى بين طهران وواشنطن. إزاء ذلك برزت إيران فى صدارة المشهد وتراجع بشكل ملحوظ العامل الإسرائيلى، حتى إن الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودى السابق استخدم فى بعض البيانات الصادرة عنه مصطلح الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى (وليس العربى).
فى تقييم الموقف الإيرانى ذهب معلقو النخبة السعودية أربعة مذاهب. الأول اعتبر ان إيران هى العدو وهو رأى تردد فى الإعلام الخليجى وتبنته بعض الكتابات المصرية. الثانى ذكر ان إيران عدو جاهل وإسرائيل عدو عاقل (أنور عشقى) ــ الثالث اعتبر ان إسرائيل عدو بذاتها، أى أنها ولدت عدوة للعرب فى حين أن إيران عدوة بأفعالها بمعنى أن الثوة الإسلامية لم تولد معادية للعرب ولكنها أصبحت كذلك بممارساتها اللاحقة (خالد الدخيل). الرابع قيل بأن إيران عدوة بأفعالها، ولكن العداء ينبغى أن يظل محصورا فى دائرة نظام طهران وليس عموم الشعب الإيرانى المسلم والشقيق (داود الشريان فى جريدة الحياة وجهاد الزين فى النهار البيروتية).
ما يستخلصه المرء من هذا العرض ان إسرائيل لم تعد العدو الأول ولا بقيت العدو الأوحد. ولكن إيران أصبحت منافسا لها. وخطورة هذه الخلاصة تكمن فى انها تسوغ غض الطرف عن الجهد الحثيث الذى تبذله إسرائيل لابتلاع كل فلسطين وسحق الفلسطينيين. وتوسيع دائرة التطبيع مع العرب. والأخطر من ذلك أنها لا تكتفى بتأجيج الصراع بين العرب والإيرانيين، ولكنها تفتح الأبواب لصراع كارثى بين السنة والشيعة لا حدود لها يهدر طاقات الطرفين ويهزمهما معا.
(٣)
<< المشهد الثالث: كما أصبح مصطلح العدو الإسرائيلى والقضية المركزية من عناوين الماضى المعرضة للاندثار، فإن المصير ذاته بات يلاحق مصطلح الأمة الواحدة. بل ان الشواهد التى بين أيدينا تدل على أننا أصبحنا نحاول جاهدين الإمساك بتلابيب مصطلح الوطن الواحد. فالتحليلات المنشورة تتعامل مع تقسيم العراق باعتباره واقعا فرض نفسه، وبعضها يتحدث عما بقى من سوريا، فى حين ان التمزق جار على قدم وساق فى اليمن وليبيا، وهو حاصل فى لبنان الذى فشل فى انتخاب رئيسه بسبب التجاذب بين الفرقاء. وكان السودان سباقا إلى التمزق بعد انفصال الجنوب واستمرار حركات التمرد فى دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، ونسأل الله ان تنجو الجزائر من التمزق بعد رحيل رئيسها المريض عبدالعزيز بوتفليقة.
لكن ذلك كله فى كفة وفرقعة كردستان الكبرى فى كفة أخرى. وقد أطلق الفرقعة اللواء السعودى السابق أنور عشقى الذى سبقت إلى الإشارة إلى أنه يدير أحد المراكز البحثية فى جدة، إذ ذكرنى مؤتمر واشنطن الذى عقد لمناقشة «التحديات الإقليمية» ما يلى: يجب ان نعمل على ايجاد كردستان الكبرى بالطرق السلمية، لأن من شأن ذلك ان يخفف من المطامع التركية والإيرانية والعراقية. إذ ستقتطع دولة كردستان الكبرى ثلث إيران وثلث تركيا وثلث العراق، على الأقل فذلك نص ما ورد فى مقالة نشرتها جريدة «الشروق» فى ١٢/٦ الحالى، وكتبها زميلنا محمد المنشاوى الخبير بالشئون الأمريكية ومراسل الجريدة فى واشنطن الذى حضر مناقشة الموضوع.
لا أستبعد ان يكون السيد عشقى قد عبر بما طرحه عن رأيه الشخصى واجتهاده الخاص، لكننا نفهم أن أفكارا بتلك الخطورة حين تطرح فى السعودية لا تكون بعيدة عن موقف السلطة وتوجهاتها. أضف إلى ذلك أن فكرة الدولة الكردية ليست مبتدعة ولا مستحدثة. فهى مضمرة ومعلنة فى الخطاب الكردى منذ عدة سنوات. وقد نقل زميلنا الأستاذ الشناوى عن رئيس ديوان السيد مسعود البرزانى رئيس إقليم كردستان العراق قوله ان الأخير بحث موضوع الدولة الكردية مع الرئيس أوباما أثناء زيارته لواشنطن. وأضاف أن أعضاء مجلس الكونجرس يرحبون بالفكرة ويحبذونها، أما إسرائيل فهى تشجعها بكل ما تملك من نفوذ وقوة، خصوصا ان لها علاقات قديمة مع الأكراد، ولها نشاطها المكثف فى أربيل الذى كان سريا واستخباراتيا قبل احتلال العراق عام ٢٠٠٣، وأصبح مشروعا وشبه علنى بعد الاحتلال وحتى الوقت الراهن.
فكرة كردستان الكبرى. وان بدت خيالية فى الوقت الراهن، إلا ان الظروف باتت مواتية لطرحها بعد الانفصال الواقعى فى العراق، وبروز دورهم فى سوريا، والانتصار الذى حققوه فى الانتخابات التركية الأخيرة، حيث فرضوا أنفسهم على البرلمان لأول مرة فى تاريخهم واحتلوا ١٣٪ من مقاعده. لكن الأهم من ذلك، وما يعنينا فى الموضوع، ان فتح ذلك الملف من شأنه ان يحدث انقلابا فى خرائط المنطقة، الأمر الذى من شأنه ان يفجر حربا شرسة يمكن ان تستمر مائة عام، لأن انتزاع الأراضى التى يعيش عليها الأكراد فى تركيا وإيران وسوريا والعراق ليست بالأمر الهين. لكنه يظل ضمن المستحيلات التى باتت واردة فى أجواء الانفراط والتحلل المخيمة على العالم العربى.
(٤)
المشهد الرابع: فى حين ينفرط عقد العالم العربى وتتفتت دوله وتتآكل خرائطه تظل للزعماء العرب «قمة» تنعقد بانتظام، وللأمة «جامعة» يفترض ان تكون واجهة لها، دون ان يكون للقمة والجامعة صلة بما يجرى على الأرض، كأنه يحدث فى قارات وكواكب أخرى، الأمر الذى حول هذه الكيانات إلى أشباح لماضٍ تجاوزته الأحداث وعفا عليه الزمن. ومن خلال اختبارات عدة اكتشفنا ان العناوين التى ملأت الفضاء العربى يوما ما عن الأمة الواحدة والمصير المشترك والقضية المركزية كانت مجرد صياغات لغوية عبرت عن طموحات لبعض الحالمين من ذوى النوايا الطيبة، وتعثرت طول الوقت محاولات تنزيلها على أرض الواقع. وأدركنا ان العالم العربى أصبح عوالم متعددة، وصار جسما بلا رأس، حتى ما بدا كأنه عمل مشترك، فإنه ظل قناعا يخفى فى طياته حسابات ضيقة وخاصة. وكانت فرقعة القوة العربية المشتركة التى هلل الإعلام لها قبل عدة أسابيع، بابا لتصفية حسابات الأطراف (مصر فى ليبيا والسعودية فى اليمن) ولم يكن فيها شىء مشترك، وصارت الفكرة نموذجا للمفارقات الفادحة فى العالم العربى، الذى سعت بمقتضاها بعض الدول إلى حماية نظمها من جيرانها أو شعوبها، فى حين تركت للدول الغربية الكبرى مهمة حمايتها ضد خصومها.
فى الفراغ المخيم ما عاد للعالم العربى الذى دخل مرحلة الأفول الكبير له وزن أو قول، الأمر الذى أغرى بعض الصغار بأن يتطاولوا فى البنيان ويحاولوا صنع المقادير. إلا أننا اقتنعنا فى وقت متأخر بأن الاصغار لا تصنع رقما وان الأقزام مهما بلغ عددهم لا يصنعون عملاقا، ومن رحم الأزمة وعمق المعاناة كان الدرس الذى استوعبه الجميع هو ان مصر هى المشكلة وهى الحل. وغدا السؤال المحير والمعذب هو: متى يمكن ان تستعيد مصر عافيتها لكى تسترد موقعها الشاغر وتثبت حضورها بعد طول غياب؟. وهو محير لأن هذا الأمل يبدو بعيدا، ومعذبا لأن أفقه يبدو مسدودا.