فهمي هويدي
هل يعقل أن يكون بيننا فى مصر كاتب بوزن وقامة وديع فلسطين الذى يبلغ اليوم عامه الثانى بعد التسعين، ولا يذكره أحد؟ إجابتى السريعة أن ذلك ليس مستغربا، لأن الرجل إذا كان قد نسى طوال العقود التى خلت، فلماذا يستغرب ألا يذكره أحد اليوم؟ صحيح أن أى باحث فى تاريخ الصحافة والأدب فى مصر يعرف جيدا من يكون الرجل، ولابد أن يكون قد توقف مشدوها أمام كتاباته التى استمرت طوال العقود السبعة الأخيرة فى قضايا الفكر والأدب، أو تلك التى تحدث فيها عن الإعلام الذين صادفهم وجمعوا فى موسوعة من مجلدين صدرت فى دمشق بعنوان وديع فلسطين يتحدث عن إعلام عصره. صحيح أيضا أنه معروف فى الأوساط الثقافية خارج مصر بأكثر من عارفيه فى الداخل. لكن ذلك لا ينفى أن الرجل يستحق منا اعتذارا لأنه لم يحتل المكانة التى يستحقها فى بلده. وهو ابن الصعيد الذى ولد فى «أخميم» عام ١٩٢٣. ومشكلته أنه اختار أن يعيش فى عالم المعرفة والأفكار دون عالم الأضواء. كما أنه اختار أن يكتفى فى تقديم نفسه بقلمه المبهر وعطائه الغزير وأدبه الجم، فلم يطرق باب أحد ولم ينخرط فى شلة ولم يجرب شبكات العلاقات العامة التى تفتح الأبواب وتستجلب الفرص. وبسبب زهده وتواضعه فإنه ظل واقفا فى الظل قانعا بحظه ومعتصما بكبريائه.
زميلتنا الأستاذة صافى ناز كاظم من تلاميذه الأوفياء الذين عرفوا قدره وأعطوه حقه. فكتبت عنه مقالة حيته فيها فى مناسبة بلوغه التسعين من العمر، وذكرت أنه كتب فى عام ١٩٩٥ مقالة بجريدة الحياة اللندنية كان عنوانها«حديث حول بدايات نجيب محفوظ عبدالعزيز» أشار فيها إلى أنه كان الثانى ـ سابقا على سيد قطب ـ فى التنبيه والإشادة بعبقرية نجيب محفوظ، تلك الحقيقة التى يُضايقه أن نجيب محفوظ لم يذكرها أبدا فى أى معرض لحديثه عن الذين نبهوا إليه فى بداية مشواره الروائى. تطرق وديع فلسطين فى مقالته إلى تأسيس «لجنة النشر للجامعيين» قائلا: وافتتحت السلسلة فى شهر مايو ١٩٤٣م (كان وديع فلسطين لم يبلغ بعد العشرين) برواية «أحمس» لعبدالحميد جودة السحار، وتلتها رواية رادوبيس لنجيب محفوظ عبدالعزيز، مشيرا إلى أنه اختار هذا الاسم الثلاثى حتى لا يخلط الناس بينه وبين الطبيب المصرى ذى الشهرة العالمية الدكتور نجيب محفوظ باشا، وتوالى نشر الكتب فى مطلع كل شهر، مما شجع شبانا آخرين على مؤازرة لجنة النشر للجامعيين، مثل: محمد عبدالحليم عبدالله ـ وكان بدوره قد فاز بجائزة وزارة المعارف عن روايته بعد الغروب، ومثل صلاح ذهنى، وأمين يوسف غراب، والشيخ الأزهرى كامل محمد عجلان، وكاتب هذه السطور. كما ارتفعت قامة اللجنة عندما قصدها أدباء كبار لنشر آثارهم مثل إبراهيم عبدالقادر المازنى، ومحمود تيمور، وكامل كيلانى، وإبراهيم المصرى، ومحمود محمود «شقيق الدكتور زكى نجيب محمود»، والأديبة السورية وداد سكاكينى. ورحبت اللجنة بناقد الرسالة سيد قطب فنشرت له كتابه طفل فى القرية، واستفادت اللجنة من انضمام هؤلاء الأدباء الكبار إليها، فكتب المازنى يُعرِف ببعض آثارها، وعَنَى سيد قطب بالكتابة عن عدد من مطبوعاتها فى مجلة الرسالة، ثم جمع كتاباته بعد ذلك فى مصنفه كتب وشخصيات، وذلك عندما كان سيد متفرغا للأدب والنقد. «وكنت بدورى من الذين سبقوا إلى التعريف بآثار معظم الكاتبين فى هذه السلسلة، وأثبت الدكتور على شلش فى كتابه، نجيب محفوظ: الطريق والصدى، أننى كنت الثانى فى التعريف بنجيب محفوظ فسقت بذلك قائمة طويلة من النقاد جاءوا بعدى فى الترتيب الزمنى. بل إن على شلش سجل ما يكاد يكون نبوءة لى بالمجد الذى ينتظر نجيب محفوظ، وذلك بقولى فى ختام مقالى عن رواية رادوبيس ما نصه: وفى اعتقادى أن هذه الرواية تستطيع أن تزاحم روايات الغرب إذا هى وجدت من يُعنى بترجمتها إلى لغات الأعاجم، ونشرت لى هذه اللجنة مسرحية الأب التى ترجمتها عن الأديب السويدى ستزندبرج وظهرت فى أغسطس ١٩٤٥. وعندما أعلن عن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل سأله الصحفيون الذين غَزَوْا داره عما إذا كان مطلعا على الأدب السويدى، فقال: طبعا، فقد قرأت آثار سترندبرج، واكتفى بهذه العبارة دون أن يشير إلى ناقل هذه الآثار الذى كان أول من قدم سترندبرج إلى اللغة العربية».
تحية لأستاذ فن الكتابة الراقية فى يوم ميلاده، الذى من حقه علينا أن نذكر له عطاءه ونبله، وأن نعتذر له مرات ومرات عن تقصيرنا فى حقه. وعسى أن ينصفه التاريخ بعدما ضنَّ عليه أهل زمانه.