فهمي هويدي
إذا صح أن قوائم المرشحين للانتخابات تعد برعاية الأجهزة الأمنية، وأن فى مقدمة مهام مجلس النواب الجديد تعديل الدستور لتوسيع اختصاصات الرئيس، فبلاها برلمان. حيث أزعم اننا فى مصر سنكون بغيره أكثر صدقا ووضوحا. إذ لا نريد برلمانا نقول انه يعبر عن الشعب فى حين أن يعبر عن السلطة. وفى حين نتمناه رافعة ومنبرا للديمقراطية فإنه بالصورة التى يقدم بها الآن سيكون عبئا على الديمقراطية. وإذا كان المفهوم الشائع ان مهمة البرلمان تتلخص فى المراقبة والمساءلة والتشريع فأخشى ان نفاجأ به وقد حصر جهده فى التصفيق والتهليل.
إذا لاحظت أننى بدأت الكلام بالإحالة إلى الإشارات التى تتردد فى الفضاء الإعلامى المصرى هذه الأيام، وقلت انه «إذا صح» كذا وكذا، فربما نبهك ذلك إلى أننى أتحدث عن رسائل جرى بثها وأثارت الشكوك والمخاوف، وليس عن حقائق تيقنت منها. ذلك أن رعاية الأجهزة الأمنية للقوائم التى تتصدر المشهد الانتخابى ليست استنتاجا ولا سوء ظن من جانبى، ولكنها مما بات من المعلوم فى السياسة بالضرورة. إذ بعدما كثر الكلام عن القوائم ذات الصلة بتلك الأجهزة، حتى قال متحدث باسم حزب النور إنها طلبت منهم تقليل عدد قوائمهم الانتخابية، فلم يعد التساؤل واردا عن عدد القوائم الأمنية، وإنما صار السؤال ينصب على القوائم التى ليست كذلك. والخطورة فيما يشاع فى هذا الصدد تتمثل فى أنه يمهد لفرض تبعية أعداد كبيرة فى البرلمان ــ يفترض أنهم يمثلون الأغلبية ــ للأجهزة الأمنية. وإذا ما حدث ذلك، لا قدر الله، فإننا نصبح إزاء وضع خطر له تداعياته الكارثية من وجهة النظر الديمقراطية. إذ عند الحد الأدنى فإن من شأن ذلك إجهاض الوظائف الأساسية للبرلمان، وضمه إلى أذرع الأجهزة الأمنية، وفى هذه الحالة يصبح الضرر فى وجوده أكبر، الأمر الذى يجعل من غيابه وضعا أقل سوءا. وقد تعلمنا من خبرة «الديمقراطيات الشعبية» ان تزييف الديمقراطية أشد خطرا على المجتمع من الاستبداد. فالتزييف يفتح الباب للالتباس والتدليس السياسى. أما الاستبداد الذى يلغى البرلمان فهو موقف صريح يكشف الأمور ويضع المشهد السياسى فى إطاره الحقيقى.
تؤيد الاقتراح الذى أدعو إليه تلك الحملة المتصاعدة التى بدأت بالدعوة إلى تعديل دستور ٢٠١٤، وتطورت إلى هجائه وتجريحه، واعتباره عقبة تعطل مسيرة الرئيس عبدالفتاح السيسى. فى حين ان حملة الاستفتاء على الدستور اقنعتنا بأنه عالج أخطاء سابقيه وجسد أحلام المصريين فى العهد الجديد. إلا أنه وبقدرة قادر، خلال أسابيع أو أيام قليلة، أصبح الحلم كابوسا وبعد ان كان التصويت على الدستور تصويتا على السيسى، وجدنا قائل هذا الكلام غير رأيه وأخبرنا بأنه أصبح عقبة فى طريق السيسى. بل واكتشف فجأة أن بعض مواده وضعها الإخوان!
كانت البداية تحفظا أبداه الرئيس السيسى فى كلمته أمام شباب الجامعات يوم الأحد (١٣/٩) التى قال فيها إن مواد الدستور وضعت بحسن نية وان الدول لا تبنى بالنوايا الحسنة. ورغم الرأى الذى أبداه الرئيس احتمل تأويلات عدة، إلا أن بعض الأصوات ترجمته باعتباره دعوة إلى تغيير الدستور. وفوجئنا بكتابات هجاء الدستور تظهر فى بعض التعليقات، إضافة إلى أن الدعوة صارت شعارا لبعض الكيانات التى تنافست وسائل الإعلام فى إلقاء الأضواء عليها. ونقل تصريحات الذين سارعوا إلى ركوب الموجة وأعطونا انطباعا ان مصر بصدد الدخول فى حرب ثالثة، الأولى كانت ضد الإرهاب والثانية شنت ضد الفساد. والثالثة ضد دستور حسنى النية، وهى القادمة مع انتخابات مجلس النواب الجديد.
بدا المشهد عبثيا لأن أعضاء لجنة الخمسين الذين وضعوا الدستور الجديد تم اختيارهم بعناية شديدة فى ضوء معايير قيل لنا إنها ضمنت تمثيل فئات المجتمع وخبراته القانونية والسياسية. ورغم ان مصطلح حسن النية يمكن ان يكون مديحا من الناحية اللغوية، لكنه فى معناه الاصطلاحى محمل بمعنى السذاجة ومحدودية التفكير والتقدير. وقد غلَّب الهجاءون وراكبو الموجة المعنى الاصطلاحى، وشكك فى مقصدهم ان أغلبهم من وثيقى الصلة بالأجهزة الأمنية التى فهمنا أنها ضيقة الصدر ببعض أحكام الدستور وربما بالدستور ذاته.
ذكرنى الهجوم على الدستور والغمز فى قناة واضعيه بما حدث فى اليمن فى عام ٤٨، حين فشلت الثورة ضد الإمام أحمد من جانب الأحرار اليمنيين الذين كان وضع دستور لليمن على رأس مطالبهم حينذاك أشاعت بطانة الإمام أنهم يريدون إلغاء شرع الله والاحتكام إلى الدستور. وهو ما أثار غضب الجماهير الذين عمدوا إلى سب الأحرار الذين تم اعتقالهم وشتمهم باعتبارهم «مدَسترين». وهى القصة التى سمعنها من آل الوزير الذين كانوا بين قادة الثورة الذين تعرضوا للسجن والشتم آنذاك.
إننى أرجو ألا نصل إلى تجريح وسب أعضاء لجنة الخمسين الذين وضعوا الدستور، وإن كان التحرش اللفظى ببعضهم قد بدأ. الأهم من ذلك ألا يورط البرلمان الجديد فى إضعاف الدستور لصالح تقوية كفة السلطة التنفيذية. وإذا صحت الشائعات التى تحدثت عن تشكيل لجنة لذلك الغرض، ضمت أحد ترزية النظام القديم القانونيين، فإن ذلك يعد سببا إضافيا للاستجابة لما دعوت إليه. ذلك اننا فى ظل هكذا برلمان نكون قد بدأنا أولى خطواتنا على طريق الندامة.
لقد علمنا فقهاء الأصول انه حين تضيق الخيارات فإن الحكمة تفرض علينا أن نقبل بالضرر الأصغر لكى نتجنب ضررا أكبر. وظنى أنه فى ظل الأجواء التى أشرت إليها فإن فكرة استبعاد البرلمان وتأجيل الانتخابات لأجل غير مسمى تمثل الضرر الأصغر الذى تقتضى الحكمة ان نقبل به كارهين، حتى إشعار آخر على الأقل.