محقون التوانسة إذ ما استشعروا الزهو بعدما فازوا بالحسنيين، الثورة والديمقراطية، وللأسباب التى تعرفونها فنحن معذورون إذا بادلناهم شعورا بالغيرة والحسد.
(1)
الأهم فى الانتخابات التشريعية التونسية التى جرت يوم الأحد 26/10 أن الديمقراطية انتصرت، وأن الشعب التونسى اختار ممثليه بحرية وشفافية، وأن النتائج لم تعرف إلا بعد انتهاء فرز الأصوات فى منتصف ليلة الاثنين. وتلك كلها «أخبار» جديدة فى العالم العربى، وفى الأجواء التى عصفت بالربيع الذى أنعشت رياحه آمال الأمة وأحلامها فى عام 2011، وقد شاءت المقادير أن تنطلق تلك الأجواء من تونس، وألا يبقى لها أثر ظاهر بعد مضى نحو أربع سنوات إلا فى تونس.
أدرى أن البعض يفضل قراءة الحدث التونسى من زاوية أخرى. ذلك أن الرياح المخيمة التى تعبر عنها أغلب منابر الإعلام العربى لن ترى الخير فى انتصار الديمقراطية وتواصل مسيرة الثورة فى تونس وانتقال البلد من النظام الجمهورى المزيف إلى النظام الجمهورى الديمقراطى. وليس ذلك راجعا فقط لأن الديمقراطية فى الأجواء الراهنة باتت كلمة تستقبل فى فضائنا السياسى بالامتعاض والاستياء (البعض بات يرحب علنا بالفاشية ويدعو إليها والبعض يحتفى بذلك دون إعلان)، وإنما هناك سبب آخر أهم من وجهة نظرهم يتمثل فى تراجع حظ حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، بحيث باتت تحتل المرتبة الثانية بين الأحزاب الفائزة. إذ أصبحت تحتل 62 مقعدا فى مجلس النواب الجديد (من بين 217 مقعدا) وكانت حصتها 89 مقعدا فى انتخابات عام 2011 (المجلس التأسيسى الذى وضع الدستور)، وفى الوقت الذى تراجعت فيه نسبة مؤيدى النهضة، فقد احتل المركز الأول هذه المرة حزب «نداء تونس» الليبرالى الذى يقوده الباجى قائد السبسى (88 سنة)، الذى كان أحد رموز حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. وهو ما يعنى أن حركة النهضة لم يتراجع تأييدها فحسب، وإنما تم ذلك التراجع لصالح حزب ليبرالى يقوده أحد «فلول» النظام السابق (باعتبار ان الرئيسين بورقيبة وبن على ينتسبان إلى نظام واحد).
ذلك كله صحيح لا ريب، ولكن الصحيح أيضا أن ذلك التبدل فى المواقع تم بناء على الاختيار الحر للشعب التونسى. بمعنى أن الخريطة السياسية التى أسفرت عنها الانتخابات لم يرسمها أو يفرضها أحد، ولكن الشارع التونسى هو الذى قررها، أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا. من هذه الزاوية فليس يهم كثيرا تراجع ترتيب حركة النهضة بما قد يعد هزيمة نسبية لها وهو أمر وارد فى أى نظام تعددى. لأن الأهم هو انتصار الديمقراطية فى نهاية المطاف.
(2)
المتابع لمنابر الإعلام العربى لا تفوته ملاحظة اهتمامها بالانتخابات التونسية لأربعة أسباب على الأقل. الأول أنها المرة الأولى التى تجرى فيها انتخابات ديمقراطية وحرة بالبلاد. الثانى أن شرائح واسعة من المحللين اهتمت بمصير حركة النهضة خصوصا بعدما أصبحت هى الحزب الإسلامى الوحيد الذى يشارك بدور رئيسى فى السلطة فى العالم العربى الذى انقلبت دوله على ما سمى بالإسلام السياسى. الثالث أن نتائج الانتخابات سوف ترسم شكل النظام السياسى التونسى فى المرحلة المقبلة، إذ ستحدد مصير الرئاسة والحكومة والبرلمان وربما سياسة الدولة ذاتها. الرابع أن حالة الاستقطاب المخيمة على العالم العربى ــ والذى كان الموقف من الربيع العربى والإسلام السياسى من أسبابها ــ لم تعد تحتمل حيادا، وإنما باتت تترقب الحاصل فى تونس للتعرف على الجانب الذى سيصطف فيه النظام التونسى (هذا الترقب ذهب إلى أبعد فى الحالة الليبية، بحيث وصل التجاذب بين التحالفات الإقليمية إلى حد تغذية الصدام المسلح بين الجماعات الليبية المختلفة).
فى الإطلال على المشهد التونسى. فإننا نجد أن 1300 قائمة حزبية وائتلافية ومستقلة اختارت ان تتنافس على 217 مقعدا لمجلس النواب المقبل تتوزع على 33 دائرة انتخابية (6 منها للتونسيين المقيمين بالخارج). والمرشحون تنافسوا بدورهم على 5.3 مليون ناخب من أصل 10.8 مليون تونسى هم كل سكان البلاد.
لأول وهلة سنجد أن المرشحين توزعوا على معسكرين، أحدهما ما سمى بجبهة الثورة (14 يناير 2011) والثانى قدم نفسه باعتباره يمثل جبهة 7 نوفمبر، الذى هو تاريخ تولى الرئيس السابق زين العابدين بن على للسلطة فى عام 1987. والأولون كانوا يمثلون مختلف القوى والجماعات السياسية والنقابية التى تعرضت للاضطهاد بدرجات متفاوتة منذ الاستقلال عام 1956 وحتى سقوط بن على فى عام 2011. وأركان وأنصار تلك المرحلة السابقة على الثورة يوصفون فى الأدبيات التونسية بالدستوريين نسبة إلى الحزب الاشتراكى الدستورى الذى أسسه الحبيب بورقيبة، والتجمعيين نسبة إلى حزب التجمع الدستورى الذى أسسه بن على. ورغم أن الحزب الأول صار جزءا من التاريخ، كما أن الثانى تم حله بعد الثورة، إلا أن ذلك لم يمنع المنتسبين إليهما من المشاركة فى الحياة السياسية من خلال أحزاب حملت مسميات جديدة.
على المستوى السياسى والفكرى فإن التنافس ظل قائما بين ثلاثة معسكرات سياسية، أحدها ضم الأحزاب والشخصيات التى مارست السياسة قبل الثورة. وكان حزب «نداء تونس» فى مقدمتها. ورغم أن أعضاءه كانوا من رموز المرحلة السابقة، فإن السبسى الذى أسسه انفتح بدرجة أو أخرى على بعض اليساريين والنقابيين المستقلين، وقدم حزبه بحسبانه كيانا وطنيا ليبراليا. الكتلة الثانية ضمت الأحزاب التى أعلنت عن انتمائها العربى الإسلامى وفى المقدمة منها حزب حركة النهضة الذى يقوده الشيخ راشد الغنوشى الذى دخل فى تحالف مع أحزاب أخرى منها حزب المؤتمر برئاسة الرئيس الحالى المنصف المرزوقى الذى يعد علمانيا معتدلا. الكتلة الثالثة ضمت قوى اليسار الماركسى والقومى والبعثى، ومن بينها حزب الجبهة الشعبية الذى يرأسه حمة الهمامى الأمين العام لحزب العمال الشيوعى، وحزب التكتل الذى يرأسه الدكتور مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسى الحالى.
(3)
معركة التنافس على مقاعد أول مجلس نواب لتونس الديمقراطية لم تكن الأولى بين القوى السياسية بعد الثورة، لكنها كانت بمثابة جولة فى الصراع الذى لم يتوقف بين مختلف القوى طوال السنوات الثلاثة التى أعقبت الثورة. من ناحية لأن ذلك من طبيعة مرحلة الانتقال من النظام السلطوى المستبد إلى النظام الديمقراطى، ومن ناحية ثانية بسبب قوة منظمات المجتمع المدنى التى لم ينجح نظام بن على فى القضاء عليها، ومن ثم فإنها تنافست فى إِثبات الحضور وأداء دورها بعد سقوط نظامه. إلا أن العنصر الأهم تمثل فى ان حركة النهضة الإسلامية هى التى تولت القيادة السياسية فى تلك المرحلة. على الأقل بحكم حصولها على الأغلبية فى انتخابات المجلس التأسيسى. وهو ما خولها حق تولى رئاسة الحكومة، وهو المنصب الذى يفوق فى أهميته دور رئيس الجمهورية طبقا للدستور الجديد. وقد أثارت صدارة حركة النهضة للمشهد السياسى حساسية أطراف عدة، خصوصا فى دوائر اليسار والعلمانيين المتطرفين. الأمر الذى كان وراء توترات عدة فى الشارع التونسى وفى المجلس التأسيسى. وقد أدت تلك التوترات إلى استقالة حكومتين رأسهما قياديان فى حركة النهضة (حمادى الجبالى وعلى العريض)، وانتهى الأمر بانسحاب الحركة من الحكومة التى شكلها رئيس محايد من التكنوقراط، وكانت الحركة قد زهدت من البداية فى منصب رئيس الجمهورية، ورشحت له حليفا لها من «الترويكا» هو الدكتور المنصف المرزوقى. ومن ثم فإنها اكتفت بالأغلبية التى توافرت لها فى المجلس التأسيسى.
خلال السنوات الثلاث وقعت أحداث مثيرة عدة لا مجال للتعرض لها فى السياق الذى نحن بصدده. لكننا ينبغى أن نسجل أربع ملاحظات على الكيفية التى تمت بها إدارة تلك المرحلة الانتقالية هى:
< أن النخبة السياسية برغم كل ما كان بينها من خلافات ومرارات لم تتخل عن الحوار فيما بينها طول الوقت، ولذلك نجحت فى تجنيب الثورة مزالق ومآزق كثيرة، كان من أبرزها محاولة الانقلاب على النظام وإسقاط الحكومة فى صيف عام 2013 من خلال الدعوة إلى الاعتصام وتشكيل ما سمى بجبهة الإنقاذ وإطلاق حملة شبيهة بحركة تمرد فى مصر. وهى المحاولة التى استلهمت التغيير الذى حدث فى مصر وحاولت أن تحتذيه.
< الملاحظة الثانية أن الصراع والتجاذب ظل سياسيا ومدنيا طول الوقت، بحيث ظلت القوات المسلحة ملتزمة الحياد وواقفة خارج المشهد.
< الثالثة أن حركة النهضة نجحت فى تقديم نموذج جسد المصالحة مع الديمقراطية من جهة ومع الاعتدال العلمانى من جهة ثانية.
< الرابعة أن حركة النهضة تعاملت مع مجريات الصراع بدرجة عالية من الوعى والمرونة. فهى ابتداء حافظت على مسافة بينها وبين التطرف السلفى، الذى أدانته من البداية ووصفه وزير الداخلية على العريض (قبل توليه رئاسة الحكومة) بأنه تيار إرهابى ترفضه الحكومة وتنبذه. من ناحية ثانية فإن قيادة الحركة أعلنت فى أكثر من مرة التزامها بما أسمته ديمقراطية التوافق التى هى مطلب مهم لإنجاح الثورة فى فترة الانتقال. وارتأى رئيسها راشد الغنوشى أن ديمقراطية الأغلبية لا تناسب تلك المرحلة ولذلك فان الحركة حرصت على ذلك التوافق فى كل خطوة أساسية، وقدمت فى سبيل ذلك تنازلات كثيرة، كان منها استبعاد النص فى الدستور الجديد على أن تكون الشريعة مصدر القوانين. ونقل عن الشيخ راشد الغنوشى آنذاك قوله إنه إذا كان النص على الشريعة يقسمنا واستبعادها يجمعنا، فنحن مع الإجماع وليس الفرقة.
لابد أن يذكر لحركة النهضة فى إدارتها لتلك المرحلة أنها استلهمت فى أدائها فقه المقاصد وقامت بتنزيله على الواقع السياسى. والمقاصد المعنية هنا هى الأهداف والمصالح العليا. وقد سمعت ذلك من أحد قياديى وفقهاء الحركة، الدكتور عبدالمجيد النجار، الذى قال لى إن الحركة اعتبرت أن المقاصد المرجوة فى المرحلة الراهنة تتمثل فى أمرين، أحدهما أن تستمر الثورة والثانى أن ينجح النموذج الديمقراطى فى تونس. من ثم فإنها اعتبرت أن أى شىء آخر يمكن تأجيله أو التنازل عنه، ولكن لا ينبغى بأى حال ان يتم التأجيل أو التنازل فى استحقاقات الثورة والديمقراطية.
(4)
بالنتائج التى أسفرت عنها الانتخابات فإن حركة النهضة دفعت ثمن إدارتها لأزمات تونس وتحملها لعبئها طوال ثلاث سنوات، وانتقلت من صدارة المشهد إلى صفه الثانى، الأمر الذى يبقيها شريكة فى القرار السياسى وليست صانعة له. وهذا الوضع المستجد يستدعى عدة أسئلة حول موقف تونس من الاستقطاب العربى، خصوصا أن النتائج حسمت تقريبا منصب رئيس الجمهورية، الذى يتوقع أن يشغله السيد قائد السبسى، بدلا من الرئيس الحالى الدكتور المنصف المرزوقى. (للعلم السبسى دعى لزيارة أبوظبى قبل الانتخابات). من ناحية ثانية فليست معروفة طبيعة العلاقات المستقبلية بين الليبراليين وبين حركة النهضة، وهل ستتجه صوب الوفاق أم الشقاق. ثم إن هناك اسئلة أخرى حول الائتلاف الذى سيشكل الحكومة، وموقف حركة النهضة منه بعدما أصبحت تمثل القوة السياسية الثانية فى البلاد.
ستتضح الأمور أكثر بعد الانتخابات الرئاسية التى يفترض أن تتم فى 23 نوفمبر المقبل، قبل دخول السيد السبسى عامه التاسع والثمانين من العمر (ولد 26 نوفمبر عام 1926)، وحينها تستدعى بقية الأسئلة. إلا أن أكثر ما يهمنا الآن أن الثورة فى تونس بخير. وكذلك الديمقراطية، وهو ما نحسدهم عليه.