فهمي هويدي
الجرس جاءنا هذه المرة من بروكسل. فقد وجه برلمان الاتحاد الأوروبى رسالة قوية إلى الحكومة المصرية انتقد فيها قائمة الانتهاكات التى تمارسها وزارة الداخلية، ودعا فى ختامها الحكومات الأوروبية إلى حظر المساعدات الأمنية والعسكرية التى تقدم إلى مصر طالما استمرت تلك الانتهاكات. حدث ذلك مساء الأربعاد الماضى ٩/٣ حين جرى تعميم الرسالة على وسائل الإعلام الأوروبية عقب جلسة البرلمان. إذ تضمنت ٢٣ نقطة لا جديد فيها بالنسبة للمواطن المصرى. ذلك أنها سجلت العناوين التى بحت أصوات الحقوقيين والوطنيين المصريين طوال العشرين شهرا الأخيرة وهى تدعو إلى معالجتها، ليس فقط دفاعا عن كرامة وإنسانية المواطن المصرى ولكن أيضا لتحقيق الاستقرار وإشاعة السلام الأهلى فضلا عن تحسين سمعة النظام القائم التى شوهتها تلك الممارسات.
تحدث بيان البرلمان الأوروبى عن كل ما نعرف. قانون منع التظاهر غير الدستورى والاعتقالات العشوائية والاختفاء القسرى وتصاعد مؤشرات القمع والتعذيب وصولا إلى الحملة ضد منظمات المجتمع المدنى ومنع النشطاء من السفر. إلى غير ذلك من الانتهاكات التى يقابل بعضها بالصمت والتجاهل فى حين تصر وزارة الداخلية على إنكار أغلبها من الأساس. ناهيك عن أن أبواقها دأبت على اتهام المتحدثين عنها بأنهم يستهدفون تشويه النظام القائم. وهى تهمة مدهشة لأن تلك الممارسات هى أكثر ما أساء إلى الدولة، يشهد بذلك البيان الذى نحن بصدده، إذ هو صادر عن برلمان الاتحاد الأوروبى الذى أدرك أعضاؤه أن ما حدث فى مصر بمثابة انتهاكات من الجسامة بحيث لا يمكن تبريرها ويتعذر السكوت عليها. وحين نلاحظ أن الذين أصدروا ذلك البيان يمثلون شعوب ٢٨ دولة أوروبية فلنا أن نتصور حجم التشويه والإساءة الذى تسببه تلك الانتهاكات لصورة مصر وسمعتها فى الخارج. وحين يحدث ذلك فإن الحديث عن المؤامرة ومساعى إسقاط الدولة يصبح لغوا لا معنى له. ذلك أن التشويه فى هذه الحالة ينطلق من داخل مؤسسات الدولة المصرية وليس من خارجها، الأمر الذى يعفى المتآمرين من بذل أى جهد لتحقيق مرادهم، لأن ممارسات أجهزة الداخلية تقوم لهم بما يلزم.
ما يثير الانتباه أننا لا نكاد نلمس جهدا حقيقيا لوقف الانتهاكات، والأغرب أن ما يبذل من جهد يستهدف الذين ينتقدونها أو يفضحون ممارساتها. تؤيد ذلك الإدعاء قرائن عدة منها محاولة إغلاق مركز النديم لعلاج ضحايا التعذيب. منها كذلك التحقيق مع الحقوقى البارز الأستاذ نجاد البرعى وتوجيه ست اتهامات إليه لمجرد أنه سعى مع آخرين لإعداد مشروع لوقف التعذيب. منها أيضا حملات استهداف المنظمات الحقوقية المستقلة، التى دأبت على رصد الانتهاكات والتنديد بها.
فى الوقت ذاته فإن الداخلية تسعى إلى تحسين صورتها من خلال الأشرطة الدعائية وتصوير الوزير وهو يقبل رأس أب كان ابنه من ضحايا الداخلية. وإلى جانب إنكار التجاوزات فإنها ما برحت تتحدث عن وقوع بعض الانتهاكات التى اعتبرتها ممارسات فردية وغير ممنهجة (رئيس المجلس القومى الحكومى لحقوق الإنسان وبعض أعضائه رددوا ذلك المعنى أكثر من مرة). وكان ذلك نوعا من الهروب من الحقيقة أو الاحتيال عليها. إذ يراد إقناعنا بأن التعذيب لا يتم بقرار صريح أو ترتيب مسبق، ولكنه «مبادرات» شخصية لا تتحمل الداخلية المسئولية عن وقوعها. وهذا صحيح لا ريب، لكن الأصح منه أن الداخلية إذا لم تصدر أوامرها بممارسة التعذيب، إلا أنها قبلت به وشجعته لأنها لم تطلب إيقافه ولم تحاسب الذين أدينوا فى ممارسته. كما انها سعت إلى قمع المركز الحقوقى الذى حاول إعداد مشروع قانون لوقفه. الأمر الذى لا يدع مجالا للشك فى أن تلك الانتهاكات جزء من سياسة الدولة وليست مجرد تجاوزات متورط فيها أجهزة وزارة الداخلية.
بيان البرلمان الأوروبى جرس جديد ينتقد ما يحدث فى مصر ويدعو إلى معاقبتها. وهو ينضاف إلى مجموعة الوثائق التى أصدرتها المنظمات الحقوقية الدولية وطالما سجلت الانتهاكات الحاصلة ونددت بممارساتها. وحين يحدث ذلك فإنه ينسف مختلف الجهود التى تمارس فى أوروبا لتشجيع السياحة وجذب المستثمرين.
يبدو أنه لم يعد كافيا لوقف الانزلاق فى ذلك المسار البائس أن نقول بأن الانتهاكات تهدر كرامة المصريين وترفع من وتيرة الاحتقان والغضب. ولا أعرف إن كان من المجدى أن نحذر أيضا من أن يؤدى ذلك إلى الإضرار بسمعة البلد السياسية وبمصالحه الاقتصادية، لكن ما أعرفه أن تجاهل الملف والاستخفاف بتداعياته له عواقبه الوخيمة التى نسأل الله أن يجنبنا شرورها.