فهمي هويدي
حين يشعر القضاة بالخطر فإن العدل يصبح فى أزمة. ولأنه أساس الملك فإن أزمة العدل تعنى مباشرة أن الوطن فى أزمة. تلك كانت خلاصة خرجت بها بعدما وقعت على تفصيلات مشروع جديد لما سمى «الأمن القضائى» فى مصر. إذ شرحه لنا مسئول فى وزارة العدل اكتشفنا أنه مساعد الوزير للأمن القضائى، وذلك فى حوار نشرته جريدة الأهرام يوم الجمعة الماضى ١١/١٢. ولم أكن وحدى الذى فوجئ بأن القصة لها خلفية ترجع إلى شهر يونيو الماضى حين أصدر آنذاك وزير العدل قرارا بإنشاء قطاع بذلك الاسم بدعوى تأمين القضاة ضد خطر الإرهاب. ذلك أن آخرين ممن أعرف لم يسمعوا بالخبر من قبل وشاركونى الشعور بالامتعاض والدهشة، ليس فقط لأن باب المزايدة على موضوع الأمن بات مفتوحا على مصراعيه، إذ ما عدنا نتحدث عن استحقاقات الأمن القومى أو حتى الأمن الغذائى أو المائى، وإنما صرنا نشهد تسابقا على إجراءات أمن الجامعات والأمن الفكرى والأمن الإعلامى، فضلا عن الأمن السياسى بطبيعة الحال وفهمت من الحوار المنشور أن اغتيال القضاة الثلاثة فى العريش والنائب العام السابق هشام بركات فى القاهرة، وراء إطلاق فكرة الأمن القضائى. وربما أسهم فى ذلك قلق بعض الدوائر على القضاة الذين أصدروا أحكاما مبالغا فى تشددها على المتهمين فى القضايا السياسية، إلا أننى لم أقتنع بالفكرة لأن الحفاظ على الأمن مسئولية جهات أخرى، ولا يفهم أن تلجأ كل جهة يتعرض بعض أفرادها لاحتمال الاعتداء إلى إنشاء منظومة أمنية خاصة بها. علما بأن الاعتداءات التى يتعرض لها الأطباء مثلا أكبر بكثير مما تعرض له القضاة، ومع ذلك فلا يعد ذلك مبررا لاستصدار قرار لتأسيس جهاز يتولى رعاية أمن الأطباء.
صحيح أن مصطلح الأمن القضائى ليس جديدا تماما، ولكنه متداول فى أقطار أخرى منها المملكة المغربية لكن له مفهوما آخر يختلف عن المقصود به فى مصر، فالمصطلح فى المغرب يراد به ترسيخ الثقة فى المؤسسة القضائية والاطمئنان إلى ما يصدر عنها، وقرأت أنه متداول أيضا فى فيتنام إلا أنه يراد به هناك إنشاء قوة خاصة لتنفيذ الأحكام القضائية. وفى كندا ينصرف المعنى إلى إقامة نظام مبتكر للمساعدة القضائية، أما المراد به فى مصر فهو تأمين القضاة وأعضاء النيابة وتطوير وحدات الأمن فى المحاكم والجهات القضائية. وذلك بالتنسيق مع الجهات المسئولة عن الأمن فى الدولة، وكما ذكر المستشار مجدى حسين عبدالخالق مساعد الوزير المسئول عن القطاع فإن الأمن القضائى فى نهاية المطاف هو أمن إدارى غير مسلح، لكنه على تواصل دائم مع الجهات الأمنية فى الدولة. ذكر مساعد الوزير أيضا أنهم بصدد تخصيص إدارات للأمن القضائى فى جميع المحاكم والمنشآت القضائية، مع تعيين كوادر أمنية بتلك الإدارات من أناس لهم خبرة أمنية ويتمتعون باللياقة البدنية اللازمة. أفادنا الرجل كذلك بأنه تم إبرام بروتوكولات تعاون مع خمس محافظات لتأمين المحاكم والمنشآت القضائية من خلال وسائل عدة منها توفير البوابات الإلكترونية وكاميرات المراقبة. كما تم تزويد بعض المحاكم بأجهزة اتصال لاسلكية حديثة توفر شبكة تواصل دائم مع غرفة عمليات العدل والقضاة على نحو يتعذر معه التشويش أو التنصت.
الأهم والأخطر من ذلك أن القاضى فى ظل هذه الأوضاع سوف يفقد استقلاله فضلا عن هيبته، ذلك أنه سيصبح فى حماية الدولة وكفالتها. وأن أمنه لم يعد مستمدا من عدله، ولكن من رعاية الدولة له والحراس الواقفين ببابه أو المرافقين له فى حركته، وهو ما يبعث على القلق، لا القضاء استمد مكانته وشموخه من خصوصية بنائه وتفرده. إذ تكون ذلك البناء من وحدات صغيرة لكل منها ذاتيته المستقلة بما يعنى أن قرار القاضى ينبع من ذاته وقناعته الخاصة، وهو فى ذلك يظل منفصلا عن محيطة، فلا اعتبار عنده لرئيس فوقه أو نظير يعادله. وذلك معمار يهتز ويفقد خصوصيته فى ظل الوضع المستجد، ذلك أنه يضعف كثيرا موقف القاضى لأنه يشعره بأنه فى حماية السلطة وأن ما يكفل له الأمان ليس العدل الذى يتحراه ولكن الأعين التى تحرسه.
إن تسطيح المشهد واختزاله فى قرار بإنشاء وحدة للأمن القضائى ينم عن تسرع له تأثيره الفادح على مستقبل ذلك المرفق الجليل الذى ينبغى أن يتم التعامل معه بما يليق بمكانته وخطورته فى المجتمع. ذلك أنه ينبغى التروى فى الأمر والإجابة عن أسئلة جوهرية قبل أن يصبح الجهاز الأمنى هو «الكفيل» الذى يصون القضاء ويحميه. من تلك الأسئلة مثلا: هل القضاء فى خطر حقا؟ وهل استهداف بعضهم سببه صفتهم القضائية أم لكونهم جزءا من النظام؟ وما دور السياسة فى ذلك؟ وهل الذين يتعرضون للتهديد هم كل القضاة، أم بعضهم ولماذا؟
إن أحدا لا يستطيع أن يساوم على أمن القضاة. لذلك فإن التدقيق فى مصادر الأخطار التى تهدد بعضهم من الأهمية بمكان. وإذا ما فتح الملف وجرت مناقشته بصراحة وشجاعة فربما تبين لنا أن ما يهدد القضاء حقا ليس الإرهاب ولكنها ضغوط السياسة التى هزت صورته وأثرت على رصيد الثقة فيه. وليس فى ذلك أى تبرير أو دفاع عن جرائم الإرهاب التى ينبغى أن تظل محل إدانة فى كل الأحوال. ولكنها دعوة إلى تفكير آخر فى مستقبل ميزان العدل وأمن الوطن، الذى يستحق أن نناقشه بعمق وجدية.