فهمي هويدي
لا نعرف شيئا عن موضوع مسلسل «أهل إسكندرية» الذى منعته مصر من العرض فى شهر رمضان المقبل وتم حبسه فى الادراج والعلب حتى إشعار آخر. لكن المتواتر ان مؤلفه بلال فضل قدم فيه شخصية ضابط شرطة منحرف، الأمر الذى لم تسترح إليه المؤسسة الأمنية، رغم أن أحداث القصة تتحدث عن عهد مبارك ولا علاقة لها بالنظام الجديد، لكن المقادير شاءت أن يثار فى نفس الوقت لغط فى موسكو حول منع فيلم سينمائى شيشانى اختلفت فيه القصة بطبيعة الحال، وكانت حجة المنع انه اعتبر تشكيكا فى تاريخ النظام الروسى والمرحلة الستالينية التى طويت صفحتها منذ نحو سبعين عاما.
لم نفهم خلفيات المنع فى مصر لأن التفاصيل لايزال يحيط بها الغموض وتختلف فيها التأويلات، والشىء الوحيد الذى اتضح لنا هو أن ثمة توجيها أمنيا غامضا ترتب عليه قرار أصدره مجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامى «بتأجيل» عرض المسلسل دون عرض الأسباب، وحين يتم ذلك قبل أيام قليلة من بداية شهر رمضان، وبعد انفاق أكثر من 20 مليون جنيه على حلقاته، فإن التأجيل يعد تعبيرا مهذبا عن الحظر والمصادرة، هذا العام على الأقل.
من المفارقات أننا فهمنا ما حدث فى موسكو ولم نفهم شيئا مما حدث فى مصر. وهو ما يسوغ لنا ان نستعيد ما جرى هناك، فى حين تظل تساؤلاتنا مثارة حول خلفيات ما جرى عندنا. فى التقرير الذى نشرته صحيفة «الحياة» اللندنية فى 20/6 الحالى لمراسلها فى موسكو ان الفيلم الذى منع عنوانه «أمر بالنسيان». وهو تسجيل توثيقى ودرامى هو الأول من نوعه للأحداث التى وقعت فى شهر فبراير عام 1944. وبمقتضاها تم ترحيل مئات الآلاف من المسلمين الشيشانيين بالقسر والقوة خلال أيام قليلة إلى سيبيريا. وتم ذلك تنفيذا لأمر أصدره الزعيم السوفييتى آنذاك جوزيف ستالين. وحسب منتج الفيلم رسلان كونانايف فإنهم حرصوا على ان يخرج منصفا للطرفين، للضحايا الذى روعتهم المأساة وللجنود الذين اضطروا إلى تنفيذ الأوامر ولم يكن بمقدورهم عصيانها. وكأنهم أرادوا ان يقولوا انها جريمة نظام ولم تكن جريمة شعب.
لأجل ذلك صور الفيلم مشهد جندى روسى مصدوم وهو يتلقى الأوامر بقتل صبى حديث الولادة، لأن الأوامر كانت واضحة فى ضرورة التخلص من الذكور. أو حينما يسمع القرار بأن تبدأ عملية الترحيل فى الخامسة صباحا على ان تنفذ بصرامة لا ترحم من يعترض، والمشهد ذاته يتكرر عندما تصدر الأوامر بإشعال النار فى معسكر اعتقال أقيم على عجل لجمع الرافضين لتنفيذ القرار ...إلخ.
هذه الواقعة الأخيرة بما تضمنته من مشاهد الحرق الجماعى كانت الذريعة الرسمية لحظر الفيلم، ذلك أن وزارة الثقافة اعتبرت الواقعة تشويها للتاريخ، وادعت ان من شأن ذلك «بث الفتن وإثارة النعرات القومية». واستندت فى المنع إلى قانون جديد يحظر تقديم «رؤية تاريخية مغايرة للأحداث»، وهو ما يعد تزويرا للتاريخ.. وقد وجهت الوزارة رسالة إلى منتج الفيلم ذكرت فيها أنها «لم تعثر فى أرشيف جهاز الأمن الداخلى على وثائق تثبت وقوع عمليات إحراق جماعية فى قرية خيباخ الشيشانية»، التى ظهرت فى الفيلم.
المنتج كونانايف أبدى استغرابه من مزاعم وزارة الثقافة وقال ان قرارها يعد إهانة لذاكرة الشعوب التى شهدت الكارثة، ومحاولة معاصرة لتزوير ذاكرة الشعوب عبر إنكارها. وتساءل ماذا نفعل بـ250 ألف شخص كانوا شهودا وتم التنكيل بهم وطردهم قسريا إلى سيبيريا. وقد سجلت شهادات كثيرين منهم ممن لايزالون على قيد الحياة. أضاف المنتج ان جدته كانت من بين المهجرين وشكلت قصتها الحافز لإخراج الفيلم. كما ذكر أن الواقعة حقيقية ولا تقبل الجدل من الناحية التاريخية، وقد أقرت بها لجنة التحقيق الروسية التى تشكلت بعد انهيار الدولة السوفييتية. بحيث لم يعد أحد يجادل فى أن الذين رفضوا الترحيل أودعوا معسكر الاعتقال فى قرية «خيباخ» وتم إشعال النار فيهم. والقرية لاتزال موجودة لكنها لم تعد منطقة مأهولة، وان ظل يقام فيها الحداد كل عام طوال السبعين سنة الماضية منذ رحيل ستالين.
رغم ان من يخالف رأى السلطة فى روسيا بات يعد «طابورا خامسا» طبقا للقوانين السارية، إلا أن وضع فيلم «أمر بالنسيان» أفضل كثيرا من مصير مسلسل أهل إسكندرية. إذ رغم التعسف فى إصدار قرار منع الفيلم الروسى إلا أن العملية تمت بدرجة من الشفافية النسبية. ذلك ان السبب أعلن على الملأ، ثم جرت مناقشته والرد عليه. فضلا عن أن الفيلم حظر فى روسيا ولكنه سوف يعرض فى عدة مهرجانات دولية، من بينها مهرجان القاهرة السينمائى(!) أما حظ مسلسل أهل إسكندرية فهو دون ذلك بكثير، حيث بدا الأمر تصريحا عن ضغوط أمنية ثم حسم بقرار غير مسبب من مجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامى. كأنه أراد أن يقول لنا إن المسلسل لن يعرض فى مصر أو خارجها للأسباب الأمنية التى تعرفونها، (الكويت تراجعت عن عرضه إرضاء لخاطر السلطات المصرية).
المحزن ان وزارة الثقافة وأصوات كثيرين ممن يدافعون عن حرية الإبداع والتعبير، هؤلاء جميعا التزموا الصمت ووقفوا متفرجين، وأخشى ما أخشاه بعد وقف برنامج باسم يوسف، وغياب بلال فضل وعلاء الأسوانى عن الإعلام المكتوب، ان تستمر تلك السياسة وتذهب إلى أبعد، بحيث لا يفلت من الرقابة والضغوط الأمنية فى نهاية المطاف سوى البرامج الموسيقية دون غيرها!