فهمي هويدي
حين يعد الرئيس عبدالفتاح السيسى بأنه سيوقع بنفسه على طلبات المستثمرين لكى يكسر هيمنة البيروقراطية، فإن ذلك يقلقنا ولا يطمئننا. وقبل أن أشرح ما أعنيه فإننى أستأذن فى رواية قصة سمعتها قبل عدة سنوات من أحد رجال الأعمال الأردنيين.
ذلك أن الرجل التقى فى إحدى المناسبات وزير الصناعة المصرى بصفته رئيسا للغرفة التجارية فى الأردن، وحين تطرق الحوار إلى فرص الاستثمار فإن الوزير شجعه على القدوم إلى مصر، ونقل بعض أنشطته إليها. جاء الرجل ووجد أن الفرص متوافرة وعوامل الجذب كثيرة، فقرر أن يبدأ أحد مشروعاته الاستثمارية، لكنه ما إن بدأ خطوات التنفيذ حتى تاه وأدرك أنه وقع فى حفرة لن يستطيع الخروج منها. إذ عذَّبته الإجراءات وتعرض للابتزاز من جانب الموظفين والسماسرة، وتناهت إلى أسماعه إشارات أقنعته بأنه لن يستطيع أن ينجز شيئا إلا إذا دفع مقابلا لكل خطوة. حينئذ قرر الرجل أن يسارع إلى الخروج من الحفرة بأى ثمن، وهو ما حدث. وفى وقت لاحق أتيح له أن يلتقى الوزير المصرى الذى سأله عما فعله فأخبره صاحبنا الأردنى بأنه يحمد الله أنه خرج من التجربة بعدما أوقف مشروعه وعاد سالما إلى عمان. حينئذ أبدى الوزير أسفه ودهشته، وقال له معاتبا: لو أنك اتصلت بى لذللت لك كل العقبات التى صادفتك، فشكره رجل الأعمال المخضرم وقال إنه تحرج من إزعاجه وسط مشاغله الكثيرة. ولم يفصح عن السبب الحقيقى لانسحابه وإنما أشار إلى أنه لم يستطع أن يتابع التفاصيل من عمان ووجد أن فى الأمر مشقة لم يحتملها.
وهو يروى القصة قال لى الرجل إن رد الوزير أقنعه بصواب قرار الانسحاب من السوق المصرية، لأنه إذا كان مضطرا للرجوع إليه لتجاوز كل عقبة يصادفها فمعنى ذلك أنه لا يوجد نظام لإدارة العملية ولا جهاز مسئول عن تنشيط الاستثمارات وتشجيعها، ولكن الجميع يتحركون تبعا للتوجيهات والتعليمات التى تأتيهم من المراتب العليا أو تحت إغراء عوامل أخرى.
تذكرت القصة حين طالعت فى صحف الجمعة ١٨/١٢ حديث الرئيس السيسى إلى كبار التجار الذين اشتكوا إليه من الإجراءات البيروقراطية التى تعطل تصاريحهم لمدة سنتين فى المتوسط. وكان رده عليهم أنه إذا حدث ذلك الفشل فسيقوم بنفسه بالتوقيع على تصاريح المشروعات لكى تنجز المعاملة خلال عشرة أيام. وذلك خبر سار لا ريب، ولكن السؤال هو: هل سيكون بوسع كل صاحب مصلحة معطلة أن يلجأ إلى رئيس الجمهورية لإنجازها؟ وإذا جاز ذلك بالنسبة للمستثمرين فهل من العدل أن يمكنوا دون غيرهم من أصحاب المصالح من إنجاز مشروعاتهم فى حين تستمر معاناة الآخرين وعذاباتهم فى المكاتب والدواوين الحكومية.
لاتزال المشكلة التى تحدث عنها رجل الأعمال الأردنى قائمة. ذلك أن جهاز الإدارة فى مصر لا يحكمه نظام واضح ييسر مصالح الخلق. فضلا عن أنه يفتقر إلى رؤية مرجعية واضحة يتم الاسترشاد بها فى مجمل أداء الجهاز الوظيفى، حيث يبدو مثلا أن الدولة مهتمة بالمستثمرين والسياح بأكثر من اهتمامها بالخدمات البسيطة والبديهية للمواطن العادى.
إن المسئول حين ينشغل بالتفاصيل فإنه يغرق فيها ويبتعد عن الرؤية الكلية والاستراتيجية، فضلا عن أنه يلغى النظام. وهى معضلة ليست فى الإدارة والاقتصاد فقط لكنها داء فى السياسة أيضا. وهو ما يمكن أن يسمى بداء «الشخصنة» العضال، الذى يربط المحيط بالشخص وليس بالنظام أو المؤسسة. الأمر الذى يعلق المصائر على المصادفات والأمزجة والحسابات قصيرة الأجل. فضلا عن أن المعيار كله يمكن أن يختلف حين يتغير الشخص.
إن كثيرين يتصورون أن وجود المسئول فى الميدان طول الوقت ومتابعته للتفاصيل من علامات التفانى فى الأداء والكفاءة فى الإدارة. ورغم أن ذلك يتم بحسن نية فى أغلب الأحوال إلا أنه يعد إعلانا عن الفشل فى الإدارة وإهدار مقومات النظام. فى هذا الصدد فإن المسئول ينبغى أن يؤدى دور «المايسترو» الذى يهتدى بالنوتة المتفق عليها لكى يحرك فريق العازفين. وهو قد يفشل إذا ما أراد أن يتحول إلى عازف، وفشله يتضاعف إذا أراد أن يقوم بدور المايسترو والعازف فى نفس الوقت.
إن النجاح الحقيقى للمسئول يتوافر إذا ما اتضحت لديه الرؤية الاستراتيجية أولا، وإذا ما تولى المراقبة والتوجيه عن بعد، من خلال المؤسسات المساعدة التى تتولى التنفيذ أو الرقابة.
وحين يتصور المسئول أنه قادر على أن يباشر كل شىء فإنه يصبح خارج التاريخ والعصر إذ يعيد إلى الأذهان مشهد الفرعون وكهنته، الذى وصفه الدكتور جمال حمدان بأنه يجسد الأساس الصلب لفكرة البيروقراطية فى التاريخ المصرى.