الانتخابات التى جرت فى إيران تشى بتغييرات مهمة فى موازين القوى، ولا مصلحة للعرب فى أن يقفوا منها موقف المتفرجين.
(١)
الخبر الرئيسى لصحيفة «معاريف» يوم الأحد ٢٨/٢ كان عنوانه كالتالى: جهاز الأمن فى إسرائيل يستعد للتغيير فى طهران ــ قد تكون هذه فرصة كبيرة. وتحت العنوان تفصيلات عن متابعة شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان» لنتائج الانتخابات الإيرانية (مجلس الشورى ومجلس الخبراء)، وثمة إشارة إلى أن الجهات الأمنية الإسرائيلية لاحظت أن إيران عمدت فى الآونة الأخيرة إلى الحد من تمويل حزب الله فى لبنان، الأمر الذى عدته تطورا جوهريا، كما لاحظت تلك الجهات أن الرأى العام الإيرانى يريد انفتاحا أكبر على الغرب. فى اليوم ذاته خصصت صحيفة «يديعوت أحرنوت» افتتاحيتها للحديث عن المفاجآت التى يمكن أن تسفر عنها الانتخابات الإيرانية، وعن حدود الحركة المتاحة أمام الرئيس الحالى حسن روحانى فى ضوء النتائج التى ستسفر عنها عملية فرز أصوات الناخبين، والحظوظ المتاحة أمام ممثلى التيار الإصلاحى فى مجلس الشورى.
اهتمام الصحافة الإسرائيلية برصد التحولات الحاصلة فى إيران يعبر عن إدراك لإرهاصات التحول الحاصلة على أكثر من صعيد هناك. بالمقابل فإن موقف وسائل الإعلام العربى إزاء الحدث يبدو متواضعا، ومتأثرا إلى حد كبير بالاشتباك السياسى بين إيران من ناحية وأغلب الدول العربية من ناحية ثانية. ورغم أنه اشتباك مبرر فإنه لا يمثل سببا مقنعا للتهوين إعلاميا من شأن حدث له أهميته الاستراتيجية بالنسبة للعالم العربى. ذلك أن إجراء أول انتخابات إيرانية بعد توقيع الاتفاق النووى ورفع الخطر المفروض منذ ٣٧ عاما، يعد خطوة باتجاه تشكيل الوضع المستجد فى إيران، الذى يتجه صوب الاقتراب من الغرب وتلوح فيه مؤشرات الابتعاد عن العالم العربى. وهو أمر له تداعياته التى ينبغى أن تكون محل رصد وانتباه. ورغم أن ما بين إسرائيل وإيران بعد الثورة الإسلامية من خصومة يفترض أن يكون أعقد وأعمق مما بين إيران والعالم العربى من خلافات، فإن ذلك لم يحل دون رصد الاستخبارات الإسرائيلية لمجريات الأحداث فى الداخل الإيرانى، وهو رصد لا يخلو من محاولة التقاط أية بادرة تلوح لصالح إسرائيل فى ثنايا تلك التحولات. خصوصا أنه ما عاد سرا أن احتمالات تلك الفرص واردة فى ظل صعود الإصلاحيين الذين يضمون أطيافا عدة متباينة الاتجاهات.
(٢)
فى الأجواء الراهنة يحتاج المرء إلى درجة عالية من ضبط النفس ليتمكن من قراءة المشهد الإيرانى الداخلى بمعزل عن قناعاته ومشاعره الشخصية إزاء مغامرات السياسة الخارجية الإيرانية التى أحدثت فجوة عميقة وغضبا عارما فى العالم العربى. وأعترف بأننى فشلت فى ذلك عدة مرات، وجدت فيها أن التحفظ على تلك المغامرات ضرورى لتحديد المواقع والمواقف والتطلع إلى المستقبل، وهو ملف لا يمكن تجاهله، لذلك سأفرد له حديثا آخر.
وجدت طهران غارقة فى الإعلانات الانتخابية التى كادت تطمس معالم الشوارع والميادين، وكان ذلك مفهوما نظرا لتنافس ألف مرشح على ثلاثين مقعدا لمجلس الشورى. (فاز الإصلاحيون بها جميعا). ورغم أن المدينة شديدة الازدحام بطبيعتها (سكانها عشرة ملايين) فإن الجديد فى الصورة أن فنادق العاصمة أصبحت تعج بالنزلاء القادمين من كل صوب. وقد كنت فى السابق أرى الوجوه الآسيوية تتصدر نزلاء الفنادق خلال سنوات الحصار الاقتصادى، إلا أن الصورة اختلفت الآن بصورة جذرية. إذ شهدت الفنادق زحف رجال الأعمال والزوار الذين توافدوا على طهران بكثافة مشهودة بعد توقيع الاتفاق النووى ورفع الحظر المفروض على إيران. وهو ما أشاع انطباعا قويا بأنها مقبلة على طفرة اقتصادية موازية للتحولات السياسية الجذرية التى لاحت مقدماتها فى الأفق بعد توقيع الاتفاق، وارتفاع أسهم الإصلاحيين والمعتدلين فى حين تراجعت بصورة نسبية حظوظ المحافظين.
المظاهر المعلنة تعبر عن أحد أوجه المشهد الإيرانى، لأن المرء لا يلبث أن يلاحظ أن الجزء الغاطس من المشهد حافل بالإشارات المثيرة التى تبرز الأوجه الأخرى المسكوت عليها. لأسباب مفهومة فإن مواقع التواصل الاجتماعى أصبحت تشكل إحدى الساحات الأساسية المعبرة عما هو غاطس وغير معلن على الملأ. بوجه أخص فإن تلك المواقع أصبحت المنابر المتاحة أمام كثيرين للتعبير عن احتجاجهم ورفضهم لبعض السياسات المعلنة فى الداخل والخارج. إذ منذ أحدث انتخابات عام ٢٠٠٩ التى شهدت ما سمى بالثورة الخضراء، التى ووجهت بإجراءات أمنية وقمعية شديدة آنذاك فإن الأغلبية نقلت مظاهر الاحتجاج من الشارع إلى الفضاء الإلكترونى. إذ باتت تلك المواقع تحفل بالانتقادات الموجهة إلى المغامرات الخارجية التى تورطت فيها حكومة طهران. إضافة إلى الإجراءات القمعية التى يمارسها القضاء الذى يهيمن عليه المحافظون، ومنها منع ظهور صور أو تصريحات الرئيس الأسبق محمد خاتمى فى وسائل الإعلام، وكذلك منع نشر تصريحات الشيخ هاشمى رفسنجانى رغم أنه يشغل منصب رئيس مجلس تشخيص المصلحة، والاكتفاء بنشر مقابلاته فقط. ومن المفارقات التى وقعت فى هذا الصدد أن رئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية الزميل طلال سلمان كان فى زيارة لمقر صحيفة «إطلاعات» التى يرأس تحريرها السيد محمود دعائى ممثل المرشد فى الصحيفة، وتطرق الحديث إلى إجراء حوار مع السيد خاتمى نشرته الصحيفة الإيرانية إلى جانب صحيفة السفير اللبنانية، فأحيل السيد دعائى إلى القضاء لأنه انتهك الحظر المفروض على خاتمى. من المفارقات التى تناقلتها المواقع أن الجهات المختصة ألغت ترشيح حفيدين للإمام الخمينى فى الانتخابات، أحدهما حسن الخمينى حفيده لابنه، والثانى على مرتضى إشراقى حفيده لابنته. ومما ذكرت المواقع أيضا أن سبعة من أهل السنة الذين رشحتهم جمعية الدعوة والإصلاح كانوا أيضا من بين الذين منعوا من الترشح، وهو ما دفع الجماعة إلى إعداد قائمة لمرشحين معتدلين من الشيعة ودعت أهل السنة إلى التصويت لصالحهم (عدد السنة فى طهران يقدر بمليون شخص يمثلون كتلة تصويتية تقدر بنحو ٤٠٠ صوت).
(٣)
هذا المقال يكتب قبل الإعلان رسميا عن نتائج فرز الأصوات، سواء فى انتخابات مجلس الشورى أو مجلس الخبراء. إلا أن القدر المعلن أن الإصلاحيين حققوا اكتساحا فى العاصمة طهران بفوزهم بكل مقاعد تمثيل المدينة، وأن حضورهم فى مجلس الشورى سيكون قويا. أما مجلس الخبراء الذى ينتخب المرشد ويفترض أن يشرف على أدائه، فقد فاز بأعلى الأصوات فيه الرئيسان اللذان يدعمان قائمة الإصلاحيين، هاشمى رفسنجانى وحسن روحانى.
وقبل أن أعرض لملاحظاتى على المشهد ألفت الانتباه إلى الحذر من الاستسلام للانطباعات المتعجلة فى تقييم مواقف الإصلاحيين والمحافظين. ذلك أن كل فريق يضم أطيافا عدة تلتقى فى نقاط وتختلف فى نقاط أخرى، وداخل كل منهما متطرفون ومعتدلون، لذلك فإن المصطلح فى الحالتين يتحدث عن ائتلاف بين جماعات عدة وليس عن جماعة واحدة. وفى الآونة الأخيرة فإن الموقف من الاتفاق النووى كان من العلامات الفارقة فى مواقف المحافظين. آية ذلك مثلا أن السيد على لاريجانى رئيس مجس الشورى المحسوب على المحافظين كان من مؤيدى الاتفاق، لذلك فإن المحافظين لم يدرجوه ضمن لائحتهم فوجد نفسه أقرب إلى الإصلاحيين، وفاز فى «قم». وكان من أشهر مؤيديه الجنرال قاسم سليمان قائد فيلق القدس متعدد النشاط فى الإقليم، وهو الأقرب تقليديا إلى المحافظين.
أما الملاحظات الأساسية التى خرجت بها فإنها تتلخص فيما يلى:
< فى الوقت الراهن فإن نتائج الانتخابات سيظل تأثيرها محصورا فى السياسات الداخلية، لأن السياسات الخارجية يقررها المرشد. بمعنى أننا لا ينبغى أن نتوقع تغييرا يذكر فى السياسة الخارجية الإيرانية فى الأجل المنظور. إلا أن التغيير فى موازين القوى إذا ظل يرجح كفة الإصلاحيين فإن تأثيره سيكون أوضح فى الأجل البعيد.
< إن الرموز الثلاثة الأبرز للإصلاحيين لا يؤيدون التمدد الإيرانى فى العالم العربى، وآراؤهم تلك يرددونها فى محيطهم الخاص. على الأقل فهذا ما سمعته من العناصر التى تحيط بهم، وهذه الآراء غير معلنة فى وسائل الإعلام التى تخضع لتوجيهات ومراقبة السلطة. والرموز الثلاثة الذين أعنيهم هم الرؤساء، هاشمى رفسنجانى ومحمد خاتمى وحسن روحانى.
< إن الإصلاحيين يستمدون قوتهم من الشارع الذى أعرب عن تأييده لهم بشدة فى طهران، أما المحافظون فهم يعتمدون على قوة مؤسسات السلطة التى يهيمنون عليها وقوة حرس الثورة، وهؤلاء جميعا يدينون بالولاء للمرشد السيد على خامنئى.
< فى الوقت الراهن ثمة صراع مكتوم بين رئيس الجمهورية حسن روحانى الذى يقود الحكومة الشرعية، وبين حرس الثورة (باسداران) الذى يمثل الحكومة الفعلية التى تتحكم فى مصائر العباد والبلاد. وقد ندد الرئيس روحانى أكثر من مرة بالفساد الشائع فى إمبراطورية حرس الثورة. وتم ذلك التنديد تصريحا مرة وتلميحا عدة مرات. إلا أن الصدام لم يخرج إلى العلن بعد، وقد يتفاقم إذا ما تعزرت مواقع الإصلاحيين بعد الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات.
< إن احتمالات التغيير فى السياسة الخارجية الإيرانية واردة أكبر بعد رحيل المرشد البالغ من العمر ٧٦ عاما. ورغم تواتر الشائعات حول إصابته بالسرطان، فإنه قيل لى إن حالته ليست بالتدهور الذى تروج له وسائل الإعلام، وإن الرجل لايزال يزاول رياضة تسلق الجبال فى شمال طهران ثلاثة مرات كل أسبوع. وهى الهواية التى يحرص عليها وله كتيب ألفه بخصوصا.
< إن رياح الاتجاه إلى الغرب تهب قوية على إيران (حسب استطلاع للرأى فإن ٨٠٪ من الإيرانيين يؤيدون ذلك الاتجاه). وقد كانت زيارة الرئيس حسن روحانى إلى أوروبا فى أول رحلة له خارج بلاده دالة على ذلك (فى روما غطوا أحد التماثيل العارية مراعاة لمشاعره). أما علاقات إيران مع الولايات المتحدة فهى تتحرك ببطء، وإن كانت صفحة الخصام فيها قد طويت. إلا أنها مرشحة للازدهار، خصوصا أن فى الولايات المتحدة ثلاثة ملايين ونصف مليون إيرانى، قدرت ثرواتهم بـ٤٠٠ مليار دولار، ولهم «لوبى» قوى هناك.
< أخيرا فإن الشعور الوطنى والقومى فى إيران تعالت مؤشراته بقوة بعد توقيع الاتفاق النووى، الذى كان مطلبا محل اجماع مختلف التيارات، وهذا التنامى له أصداؤه التى تهم العالم العربى كثيرا فى المرحلة القادمة.
(٤)
لا يملك العرب ترف إغماض الأعين عن التحولات الحاصلة فى إيران. لذلك فإن السؤال الكبير الذى تستدعيه هذه الخلفية هو: كيف سيتعاملون مع الصعود المرتقب لوزنها ودورها فى المرحلة المقبلة؟ ــ أحاول الإجابة عن السؤال فى الأسبوع المقبل بإذن الله.