فهمي هويدي
حين تتراجع الحكومة عن قرار أصدرته أو أصدره أحد وزرائها فذلك لا ينبغى أن يعد ضعفا من جانبها أو فشلا لها. ذلك أن التراجع يمكن أن يكون تعبيرا عن الشجاعة والثقة بالنفس والحرص على التصويب، كما أنه يعد من قبيل احترام رأى المخاطبين بالقرار إذا كانوا قد تظاهروا اعتراضا عليه. أقول ذلك تعليقا على قرار رئيس الحكومة المصرية تجميد العمل بنظام درجات السلوك لطلاب الثانوية العامة، الذى خصص عشر درجات للحضور والانضباط السلوكى لأولئك الطلاب فى نهاية العام. الأمر الذى يمكن أن يكون له تأثيره السلبى على مستقبل الطلاب فضلا عن أنه يفتح الباب لاحتمال التلاعب بتلك الدرجات.
إزاء تقديرى لموقف رئيس الحكومة، فإننى لم أسترح إلى الطريقة التى نشرت بها جريدة المصرى اليوم الخبر أمس (٢٥/١٠). إذ ذكرت أن الحكومة فشلت فى الصمود أمام الضغوط والاحتجاجات التى استقبلت بها قراراتها للمرة الخامسة على التوالى منذ بداية عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى. فبعد التراجع عن تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية فى البورصة لمدة عامين، ووقف تطبيق منظومة الكروت الذكية للبنزين، ووقف تصدير الأرز بجميع أنواعه لمدة عام وإلغاء حظر استيراد الأقطان من الخارج، فإنها تراجعت عن تطبيق قرار احتساب درجات السلوك لطلاب الثانوية العامة، الذى ورد فى لائحة الانضباط بعد انتفاضة طلابية استمرت أكثر من أسبوع.
ليس لدى دفاع عن لائحة الانضباط التى لا أستسيغ عنوانها وأتشكك فيه. لكن كلامى مقصور على الجزئية المتعلقة بتخفيض عشر درجات للسلوك، الذى أعتبره أمرا مريبا فى حده الأدنى، كما أوافق على أنه يمثل ثغرة يمكن أن تتسرب منها مفاسد عدة. إلا أن لدى إيضاحا يتعلق بأهمية وجدوى التجاوب مع المظاهرات الاحتجاجية التى أشترط للتفاعل معها ثلاثة شروط: الأول أن تكون سلمية، والثانى أن تتبنى مطلبا مشروعا، والثالث أن تكون معبرة عن الرأى العام للجمهور المتلقى، وليس عن شريحة من أصحاب المصالح الخاصة.
إن ثمة دولا مثل سويسرا تستفتى الناس قبل الإقدام على أى مشروع أو قرار يتعلق بمصالحهم أو حياتهم، وبذلك تضمن مقدما إرضاء وقبول الأغلبية. ولست أطمع فى شىء من ذلك فى بلادنا التى تضيق فيها صدور أغلب الأنظمة بالاستفتاءات. وإذا أقدمت عليها مضطرة فإنها لا تبدؤها إلا بعد أن تكون النتيجة قد اعتمدت من جانب أولى الأمر، وبعد ذلك يمارس الناس «حريتهم» فى التصويت. مع ذلك فإن المظاهرات الاحتجاجية والسلمية على صدور القرار تعد استفتاء لاحقا للمخاطبين به، إما أن تستقبله الحكومات بالعناد والقمع، وإما أن تتجاوب مع نتائجه وتعيد النظر فى قرارها. وفى النظم الديمقراطية فإنها تسعى للتفاهم مع المتظاهرين أصحاب المصلحة للتوصل معهم إلى نقطة وسط ترضى الطرفين.
وقعت على خبر نشر فى منتصف شهر أكتوبر الحالى خلاصته أن عناصر من الشرطة الفرنسية تظاهرت فى باريس أمام مقر وزارة العدل، للتعبير عن استيائهم واحتجاجهم على عدم الاكتراث بأوضاعهم رغم زيادة أعبائهم التى ترتبت على الاعتداءات التى شهدتها العاصمة الفرنسية فى شهر يناير الماضى. تحدث الخبر عن هتافات الغاضبين من الشرطة والتحرك الاستثنائى الذى لجأ إليه أفرادها، حيث لم يتظاهروا لأمر يخصهم طول الثلاثين عاما الماضية. وما أثار انتباهى فى القصة كان موقف السلطة إزاء المظاهرة. ذلك أن رئيس الوزراء اهتم بالأمر وأعلن أنه بصدد اتخاذ بعض الإجراءات والمقترحات المتعلقة بالتعامل مع شكاوى الشرطة. كما أن الرئيس فرانسوا هولاند سوف يستقبل ممثلى نقابات الشرطة والعدل للاستماع إلى وجهة نظرهم.
استخضرت تلك الواقعة ليس فقط بسبب تجاوب الحكومة المصرية مع مطلب طلاب الثانوية العامة، ولكن أيضا لأن مصر تشهد بين الحين والآخر مظاهرات اجتجاجية عدة لشرائح من الغاضبين، بعضهم حملة شهادات الدكتوراة والماجستير، والبعض الآخر لعمال غزل المحلة، وكانت قد شهدت مظاهرات لأمناء الشرطة وموظفى الخدمة المدنية.
لم نسمع أن الجهات العليا تفاعلت مع المظاهرات المصرية على نحو قريب مما حدث فى فرنسا، (الأمن يتولى أمر أغلب المظاهرات عادة) وهو ما يعبر عن المسافة بين الحالة الديمقراطية فى البلدين، لذلك اعتبرت تراجع الحكومة الراهنة عن تنفيذ قرار درجات السلوك أمرا ايجابيا، وإن تمنيت أن يكون الاتجاه إلى إلغاء القرار وليس مجرد تجميده، الأمر الذى قد يفتح الباب للعودة إليه عندما يهدأ الغضب وينسى الناس الموضوع.
إن التجميد لا يعنى فشلا للحكومة وإن كان يعنى أن الأمر لم يسمع فيه رأى الطرف المخاطب به، وهو ما يسلط الضوء على المشكلة الأكبر التى تعانى منها مصر، وهى المتمثلة فى عدم وجود مؤسسات تمثيل المجتمع التى تشارك فى إصدار القرارات المتعلقة بمصالح فئاته. بسبب ذلك فإن التجميد يظل خطوة إيجابية وشجاعة أرجو أن تتيح للحكومة فرصة إعادة النظر فى الموضوع. وهو ما ينبغى أن يحسب لها وليس عليها، حتى إشعار آخر على الأقل.