فهمي هويدي
حين ينعقد مؤتمر إعمار عزة فى القاهرة اليوم فينبغى أن تنتوجه بالشكر لثلاثة أطراف. النرويج التى أطلقت الفكرة ومولتها، ومصر التى رحبت بها وتحمست لاستضافة المؤتمر، وداعش التى حفزت الجميع على المسارعة إلى إعمار القطاع تجنبا لما هو أسوأ.
ذلك ان فكرة المؤتمر كانت اقتراحا نرويجيا، وكان الموعد المقترح لعقده هو الخامس من شهر سبتمبر الماضى، بعد نحو أسبوعين من سريان وقف اطلاق النار فى غزة، إثر العدوان الذى شنته اسرائيل فى الثامن من شهر يوليو الماضى، وأدى إلى قتل ألفى شخص واصابة نحو ١١ ألف جريح، إلى جانب تدمير أكثر من ٢٠ ألف بيت، نصفها تمت تسويته بالأرض، والثابت ان الفظائع التى ارتكبتها اسرائيل فى أثناء العدوان التى قوبلت ببسالة من جانب المقاومة الفلسطينية أحدثت تحولا مهما فى الرأى العام الغربى بوجه خاص، فكان أن سارعت النرويج التى رعت اتفاق اوسلو بين طرفى الصراع فى عاصمتها عام ١٩٩٣ إلى الدعوة لعقد مؤتمر اعمار القطاع.
وهى الدعوة التى التقطتها القاهرة فأجرت اتصالات مع السلطات النرويجية عرضت خلالها استضافة المؤتمر وتوجيه الدعوة إلى المشاركين فيه. قوبل الاقتراح بترحيب من جانب النرويجيين لأسباب عدة بعضها يتعلق بأهمية الدور الجغرافى المصرى فى الشأن الفلسطينى، وكون القاهرة راعية للحوار بين الفصائل الفلسطينية، والبعض الآخر يتعلق باختصار نفقات المؤتمر، حيث تبين ان عقده فى القاهرة يتكلف نحو مليونى دولار، فى حين أن تكلفته فى العاصمة النرويجية تصل إلى ثلاثة أضعاف ذلك المبلغ.
هناك عنصران مهمان أسهما فى تحريك فكرة إعمار غزة، الأول تمثل فى الوفاق الذى تم بين حركتى فتح وحماس، والذى أدى إلى تشكيل حكومة واحدة ووفد موحد فى المفاوضات التى تحدث فيها الوفد من موقف القوة بسبب الصمود والإنجاز الذى حققته المقاومة فى غزة. وهى المفاوضات التى أدت إلى وقف اطلاق النار واسفرت عن مجموعة النقاط الإيجابية المتعلقة بفتح المعابر والسعى لإنهاء الحصار وحل مشكلة تحويلات رواتب موظفى القطاع، وسواء كان أبومازن متحمسا لحكومة الوفاق أو مضطرا إليها، نظرا لأن اسرائيل لم تقدم إليه شيئا، الأمر الذى أدى إلى تدهور اسهمه فى الساحة الفلسطينية، فالشاهد أن الوفاق كان انجازا من أكثر من زاوية، فقد حقق وحدة الصف بصورة نسبية، كما انه كان بمثابة طوق نجاة للرئيس الفلسطينى، فضلا عن انه اسفر عن حكومة اصبحت تشكل عنوانا يمكن للمجتمع الدولى مخاطبته باعتباره يمثل الشعب الفلسطينى فى الضفة والقطاع وليس فى الضفة وحدها، ولابد ان يسجل فى هذا الصدد تقدير خاص لمرونة حماس التى تخلت عن السلطة فى القطاع لإنجاح الوفاق وحكومته.
العنصر الآخر الجدير بالملاحظة يتمثل فى التغيير الذى طرأ على الموقف الاسرائيلى، ذلك أن حكومة اسرائيل كانت قد اعلنت فى البداية مقاطعتها لحكومة الوفاق، ورفض السماح لها بالمرور فوق «أراضيها» من الضفة إلى القطاع، ولكن المتغير الذى حدث بعد الحرب، خصوصا تعاطف الرأى العام الدولى مع مظلومية الفلسطينيين، والاعتراف المتزايد بالحكومة الفلسطينية، والحماس الدولى لإعمار القطاع والضغوط التى مورست فى ذلك الاتجاه، هذه العوامل دفعت الحكومة الاسرائيلية إلى التراجع عن موقفها، حيث تبين لها انها لا تستطيع ان تواصل منع الحكومة من أداء مهامها.
من ثم فإنها عقدت عدة اتصالات مع مبعوث الأمم المتحدة ومع اعضاء فى حكومة رام الله، تم خلالها التراجع عن موقف الرفض والمقاطعة (زيارة رئيس حكومة الوفاق لغزة كانت إحدى ثمار ذلك التحول) وقد لاحظت الصحف الاسرائيلية ذلك فكتب المراسل العسكرى لصحيفة «يديعوت أحرونوت» اليكس فيشمان يقول «إنه بدون مفاوضات رسمية فى القاهرة، ودون تصريحات مثيرة أو توقيع اتفاقيات بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية ومصر، فإن الأبواب انفتحت لإعادة اعمار القطاع». وأشار إلى أنه خلال عشرة أيام ستصل الرواتب إلى موظفى حكومة حماس، وخلال شهر ستتدفق على غزة كميات هائلة من مواد البناء، مضيفا ان اسرائيل وافقت على انتشار رجال السلطة الفلسطينية على معبرى كرم ابو سالم وايرز، فى حين وافقت مصر مبدئيا، بشروط لم تحدد، على وجود رجال السلطة فى معبر رفح.
هذا التحول فى الموقف الاسرائيلى ليس استجابة لضغوط دولية فحسب، ولكن وراءه رؤية تبنتها اطراف عدة فى الإدارة الأمريكية، وفى الحكومة الاسرائيلية ذاتها، وهى تنطلق من ادراك اهمية انعاش القطاع لتخفيف حدة البطالة وتجنب الاختناق الذى يمكن ان يفضى إلى الانفجار، ولم تكن هذه هى الرؤية الوحيدة، لأن حكومة اسرائيل ضمت وزراء من غلاة اليمين انحازوا إلى فكرة تدمير حماس، واحكام الضغط على القطاع لقهر سكانه. ومن هؤلاء وزيرا الخارجية والاقتصاد، ولكن كفة الرأى الأول رجحت ليس انصافا للفلسطينيين أو تعاطفا معهم، ولكن تجنبا لحدوث الاسوأ فى حالة تبنى سيناريو التدمير، عبر عن ذلك مايكل فلين رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية الذى حذر من عواقب ذلك السيناريو، وقال صراحة «ان احدا لا يضمن ألا يأتى بعد ذلك طرف فلسطينى آخر أسوأ من حماس»، فى هذه النقطة نقل عن احد باحثى معهد الدراسات الأمنية والسياسية فى برلين اسمه جيدو شتاينبرج قوله «ان شعبية الجماعات الجهادية ازدادت فى السنوات العشر الأخيرة، وان حماس تسيطر على تلك الجماعات فى غزة (القاعدة وجبهة النصرة والسلفية الجهادية). إذا نجحت فى استيعابها وكبح جماحها».
واضاف «ان اى إضعاف لحماس سوف يؤدى إلى انطلاق تلك الجماعات على نحو قد تتعذر السيطرة عليه». وهو تحليل يصوب النظر نحو تجربة داعش فى سوريا والعراق. ويرى فيها خطرا ينبغى ألا تهيأ أى فرصة لوقوعه. واحسب ان توقّى كان أحد العوامل التى شجعت على تغيير مواقف مختلف الأطراف، خصوصا الحكومة الاسرائيلية، ذلك ان الجميع وجدوا أن انعاش اقتصاد القطاع والتخفيف من قسوة الحصار يفوت الفرصة امام احتمال ظهور «داعش» فى غزة. وهو مايسوغ لنا ان نفكر فى أن نوجه إليها الشكر رغما عنا لأن النموذج الفظ الذى قدمته كان كامنا فى خلفية المؤتمر.