بقلم فهمي هويدي
صفعة الأسبوع وجهها إلينا رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو. ذلك أن الرجل اصطحب أعضاء حكومته وعقد اجتماعه الأسبوعى معهم لأول مرة فى تاريخ الاحتلال فوق هضبة الجولان السورية، المغتصبة منذ نحو خمسين عاما. من هناك أعلن بكل جرأة وصفاقة أن الجولان ستظل تحت السيادة الإسرائيلية «إلى الأبد»، وطالب المجتمع الدولى باعتبارها تمثل الحدود الشمالية لإسرائيل. ليس ذلك فحسب وإنما اختار يوم الأحد ١٧/٤ بالذات لكى يعلن موقفه فى مستهل اجتماع مجلس الوزراء، لأنه اليوم الذى يوافق ذكرى جلاء الاستعمار الفرنسى عن الجولان منذ ٧٠ عاما، وتحتفل فيه سوريا وسكان الهضبة بالمناسبة.
تحدى نتنياهو السوريين والدول العربية كلها وتحدى المجتمع الدولى ومجلس الأمن وكل المواثيق التى حررت والقرارات التى صدرت والأعراف المعمول بها، وأعلن أن الجولان ستبقى إسرائيلية رغم أنف الجميع، ولسان حاله يقول للعرب: أعلى ما فى خيلكم اركبوه.
المشهد لا يصدق ولم يكن ليخطر على بال أحد يوما ما، ولا يمكن تفسيره إلا بحسبانه لقطة عبثية فى الوضع العربى المزرى الذى وصلنا إليه. حيث تفتك الأنظمة بشعوبها، وتتسابق على الانتحار القومى. فى الوقت ذاته فإن بعض تلك الأنظمة غفرت لإسرائيل كل جرائمها، وغضت الطرف عن ممارساتها العنصرية والنازية، ودخلت معها فى صفقات مريبة ومشبوهة. وهو ما أطلق يد إسرائيل فى المنطقة وسمح لها بأن تدعى الانضمام إلى محور «الاعتدال» العربى والانتصار لأهل السنة فى مواجهة إيران الشيعية!
حين بلغ الخلل فى معايير الأمة منتهاه وأصبح استخزاء البعض وانبطاحهم من علامات «الاعتدال»، صار التوافق مع إسرائيل يتم فى العلن بلا خجل أو حياء، واكتشفنا أن التنسيق مع أجهزتها الأمنية لم يعد مقصورا على سلطة رام الله، وإنما جرى تعميمه على بعض الأقطار العربية، حين حدث كل ذلك لم يجد نتنياهو غضاضة فى الذهاب منتشيا ومختالا إلى الجولان لكى يعلن قراره على الملأ.
أيا كان قدر كراهيتنا له، فإننا لا نلومه على الصفعة أو البصقة التى وجهها إلينا، لكننا نلوم الذين مدوا إليه أيديهم وأحنوا رءوسهم له وابتلعوا إهاناته لهم وازدراءه بهم. الذين لم يستأسدوا إلا على شعوبهم ومعارضيهم، فى حين أداروا له خدهم الأيسر كلما صفعهم على الخد الأيمن!
لم يجامل نتنياهو أصدقاءه العرب، ولم يلجأ إلى التهدئة والحفاظ على ماء وجوههم. وإنما فعل فعلته بمنتهى البجاحة والعجرفة وهو يعلم جيدا أن ذلك سوف يسبب لهم إحراجا ويفضح عجزهم أو تواطؤهم أمام شعوبهم. فى عام ١٩٦٩ عندما حاول أحد الصهاينة إحراق الجناح الشرقى للمسجد الأقصى قامت الدنيا ولم تقعد فى العالم العربى والإسلامى، وتنادى الرؤساء لعقد قمة الرباط التى أسفرت عن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامى (التعاون الإسلامى لاحقا) والفرق بين الغضب الذى تفجر آنذاك فى أروقة الأنظمة العربية خاصة وبين الموات الذى نشهده الآن فى الأروقة ذاتها يعكس الفرق بين أجواء وقيم مرحلتين فى التاريخ العربى المعاصر. فى المرحلة الأولى كان للعروبة والنخوة معنى، وفى الثانية انكسرت الأمة وانكفأت حتى سقطت تلك المفردات من القاموس بعدما أصبحت بلا معنى.
لا غرابة والأمر كذلك أن يعربد الإسرائيليون فى فلسطين، وألا يتردد نتنياهو فى اصطحاب أعضاء حكومة لعقد اجتماعهم الأسبوعى فوق الهضبة السورية المحتلة منذ عام ٦٧، والتى ضمتها إسرائيل بقرار حكومى فى عام ١٩٨١. ثم يتحدث بمنتهى الصفاقة عن أن الجولان التى لايزال يسكنها أكثر من ٢٥ ألف سورى هذه كلها صارت تمثل الحدود الشمالية لإسرائيل من الآن وإلى الأبد. صحيح أن إسرائيل استقدمت لها ٣٠ ألف مستوطن، وكثفت من جهود استغلال أراضيها التى تتجاوز ١٨٠٠ كيلو متر مربع، وأقامت فوقها ٣٢ مستوطنة، لكن ذلك كله لا يلغى حقيقة كونها أرضا محتلة ومغتصبة بقوة السلاح وجبروت الاستكبار الإسرائيلى.
لم يكتف نتنياهو بإعلانه الصاعق، ولكنه بعدما أذاع النبأ أمر جيشه بإجراء مناورات عسكرية فى الجولان تستمر أسبوعا، وبدا ذلك إمعانا فى التحدى وتوجيها لرسالة صريحة تنذر كل من يهمه الأمر بأن السلاح الذى استولت به إسرائيل على الجولان، لايزال قادرا على الاحتفاظ بها وإبقائها رهينة لديه إلى الأبد.
حين يحدث ذلك ولا تتحرك الأنظمة العربية مكتفية ببعض بيانات الشجب وستر العورة التى صدرت عن الجامعة العربية والبرلمان العربى ومجلس حقوق الإنسان فى مصر. فلا ينبغى أن نستغرب الانقضاض الإسرائيلى الراهن على المسجد الأقصى الذى يتم بالتوازى مع الجهود المكثفة التى تبذل مع تهويد مدينة القدس. أحدث ما تابعناه فى هذا الصدد كانت حملة منظمة «معبدالهيكل» الأنشط والأكثر حماسا لإعادة بناء الهيكل المزعوم على أنقاض الحرم القدسى. ذلك أنها شرعت فى جمع التبرعات لتأهيل فريق الكهنة الذى سيتولى إقامة قداس تقديم الأضاحى، وهو أحد الطقوس التى تمهد لبناء الهيكل وفق الفقه اليهودى. لا نلوم هؤلاء أيضا، لأنك إذا رضيت بالانبطاح أرضا، فلا تلومن من يدوس عليك بحذائه من العابرين، خصوصا إذا كانوا يتشفون فيك ويتربصون بك.