فهمي هويدي
أرأيت يا سيدى كيف أجهضت أحلامنا وتراجعت مطالبنا بمضى الوقت؟ إذ نسى الشهداء الذين قدموا أرواحهم ثمنا للثورة التى انطلقت فى 25 يناير. وخفتت أو تأجلت أصوات المنادين بالحرية والديمقراطية فى مصر، وما عاد يقلق نخبة هذا الزمان كثيرا وجود عدة ألوف من المعتقلين وراء أسوار السجون المكتظة. وصارت أصوات أغلب الناشطين تطالب بإطلاق آحاد الناس من الأصدقاء والرفاق. بل ما عاد يصدم الأغلبية أن يقدم المئات إلى المحاكمات كل شهر (المرصد المصرى لحقوق الإنسان أصدر هذا الأسبوع بيانا ذكر فيه أنه خلال شهر مايو الماضى حكم على 1238 شخصا بالسجن لمدة 5823 سنة وبغرامات وصلت إلى 7 ملايين و560 ألف جنيه فى سابقة هى الأولى من نوعها فى تاريخ مصر). ذلك كله صار وراء ظهورنا فى الوقت الراهن. وأصبح غاية مرادنا الآن أمران، أولهما أن يتوقف التعذيب فى السجون وهو ما تتحدث عنه بيانات المراكز الحقوقية المستقلة وشهادات المعتقلين المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعى. وثانيهما أن يتم إنقاذ المضربين عن الطعام من الموت الذى يتهددهم.
ما سبق ليس أغرب ما فى الأمر. لأن الأغرب أن نلاحظ تشوها فى ضمائر البعض وتراجعا فى إنسانيتهم، يجعلهم يقبلون بكل ذلك ويدافعون عنه، معتبرين أن هؤلاء الذين يعتقلون وأولئك الذين يعذبون ونظائرهم الذين يوشكون على الموت بسبب إضرابهم عن الطعام، هؤلاء جميعا «يلقون ما يستحقونه»، لأنهم بعد الذى جرى ما عاد لهم مكان فى مصر، وما عاد لهم الحق فى الوجود والحياة. إلى غير ذلك من مفردات الخطاب المغموس فى مستنقع الكراهية. والمسكون بأصداء لغة النازيين التى بررت الإبادة وبارك إحراق البشر فى غرف الغاز.
يحضرنى فى هذا السياق الحديث النبوى الذى أنبأنا بأن امرأة دخلت النار لأنها عذبت قطة ولم تطعمها، فقلت ان الخطاب الشرعى الذى نهى عن تعذيب الحيوان وتوعد الذين يقترفون ذلك الإثم بالعقاب يوم الحساب، لم يتوقع فيما يبدو أن يمارس الإنسان تعذيب إنسان آخر وانه اكتفى بالنص على حق كل إنسان فى الكرامة وفى الحياة. صحيح أن النص القرآنى يقرر أنه من قتل نفسا بغير حق فإنما قتل الناس جميعا، إلا أننا لا نكاد نجد نصا صريحا ينهى عن تعذيب البشر، وان جاز لنا ان نستخدم القياس فى اعتبار أن من عذب إنسانا فكأنما عذب المجتمع بأسره. فى كل الأحوال فربما كان مثيرا للانتباه وداعيا إلى السخرية ان نبذل جهدا لتأصيل النهى عن تعذيب البشر من الناحية الشرعية، باعتبار ذلك من المسلمات التى لا تحتاج إلى نص أو تأجيل، لا عندنا ولا عند غيرنا.
إننى لم أفهم مثلا ان يضرب مسجون عن الطعام احتجاجا على مظلوميته، ويطول به الوقت حتى تتدهور صحته ويصبح مهددا بالموت، ويكون الرد عليه هو إنزال مزيد من العقاب به، بحيث ينقل من سجن عادى إلى آخر أكثر قسوة، ثم يعزل وحيدا فى غرفة إمعانا فى قهره وإذلاله، وتسد عليه المنافذ، بما فى ذلك فتحة الباب الصغيرة التى تجعله يتواصل مع حارسه. وذلك فى معاندة تستهدف كسر إرادته. فى حين ان الموقف القانونى والإنسانى الطبيعى ان تتم معاملته على نحو مختلف تماما. سواء فيما خص التهمة الموجهة إليه أو الرعاية الطبية المفترضة، أو من خلال كفالة حقوقه الأخرى، من زيارة أهله إلى رؤية محاميه. أما ان يحرم من كل ذلك. ويلقى وراء أربعة جدران أسمنتية لكى ينكل به ويتعذب ويموت فى بطء فذلك مما يصعب تصوره أو قبول أى تفسير له. ناهيك عن أصداء ذلك السلوك غير الإنسانى فى داخل البلاد وخارجها.
هذا الذى ذكرته ليس محض خيال أو مجرد افتراض، ولكنه من وحى رسائل المضربين عن الطعام الذين يتم التعامل معهم بدرجة عالية من العناد فضلا عن الاستهتار والاستعلاء. ناهيك عن ان الذين يمارسون تلك الأفعال يتصرفون بحسبانهم فوق الحساب وفوق القانون، فإذا مات السجين بين أيديهم أو جراء تعذيبهم له فانهم يعرفون جيدا انه لا أحد يسائلهم أو يحاسبهم. وليست بعيدة عن الاذهان قصة رجال الشرطة الذين اتهموا فى أكثر من 40 قضية بقتل المتظاهرين أثناء الثورة، ثم بُرِّئوا جميعا باستثناء واحد أو أثنين. وقصة إلغاء الحكم الصادر بمعاقبة الذين أدينوا فى جريمة قتل 37 معتقلا شاهد أخير على ما أقول.
أكبر خطأ ان يخطر على بال أى أحد أن ما سبق يمثل دعوة للتسامح مع الإرهاب أو الإرهابيين، الذين ينبغى أن يتم التعامل معهم بكل حزم وشدة، بعد التثبت من هوياتهم وإخضاعهم لتحقيق نزيه. لكنه فى الحقيقة دفاع عن القانون وعن إنسانية المعتقلين، الذين يفترض انهم أبرياء حتى تثبت إدانتهم. وتعلقنا بذلك المطلب الآن من دلائل انكسار الأحلام وهبوط سقف مطالبنا، بعدما صار غاية مرادنا أن ندافع عما تبقى لنا من إنسانية بعد ثلاث سنوات من الثورة.