توقيت القاهرة المحلي 21:28:53 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عذابات السوريين بين التسويف والنسيان

  مصر اليوم -

عذابات السوريين بين التسويف والنسيان

فهمي هويدي

من المدهش أن المناقشات الدائرة حول الأزمة السورية تتطرق إلى عناوين كثيرة ليس من بينها عذابات الشعب السورى ومصيره.
حين دعى بعض الصحفيين المصريين لزيارة سوريا ورتب لهم النظام جولة فى بعض المراكز الإدارية بالمحافظات التى يسيطر عليها، فإن ذلك أنساهم أن فى البلد مذبحة مستمرة منذ أربع سنوات وهى الآن فى عامها الخامس. هم لم يكونوا وحيدين فى ذلك، لأنه منذ تمددت جماعة داعش فى سوريا بعد العراق، ولفتت الأنظار وأشاعت المخاوف بممارساتها ونظامها الذى فرضته، فإن ذلك صرف الانتباه عن الجريمة الأصلية والمذبحة المستمرة التى تخللتها بشاعات تفوق بكثير ما أقدمت عليه وأعلنته داعش على الملأ. فى الوقت نفسه فإن داعش بدت وكأنها طوق النجاة للنظام، بل وهدية كبرى لإسرائيل أيضا، فقد اعتبر النظام نفسه مهددا من قبل «الإرهاب» وضمت إسرائيل نفسها إلى المعسكر المقاوم للإرهاب، ونسى الجميع إرهاب نظام الأسد الذى هو أصل الداء ومصدر البلاء، كما نسوا إرهاب إسرائيل التى تفوقت على داعش فى جرائمها. ثم حين انفجرت قضية اللاجئين التى صدمت الأوروبيين وأربكتهم. وكان للسوريين الحصة الأكبر منهم، فإن أوروبا والعالم الغربى شغلوا باستقبالهم واحتوائهم، ولم يتوقف كثيرون أمام حقيقة مأساتهم والجحيم الذى فروا منه، حتى فضلوا التعرض للموت غرقا على البقاء فى ظل عذاباته.
إزاء ذلك غدا التذكير بالحقائق المنسية للمشهد السورى واجبا، قبل التطرق إلى مآلاته ومستجداته التى طرأت خلال الأسابيع الأخيرة،. إذ طبقا للمرصد السورى لحقوق الإنسان فإن حصيلة السنوات الأربع الماضية يمكن التعرف عليها من خلال المعلومات التالية: أكثر من نصف الشعب السورى تحولوا إلى نازحين. عددهم الآن ١٤ مليونا، منهم خمسة ملايين تركوا بلادهم وتوزعوا على الملاجئ والمنافى والباقون تشردوا فى وطنهم ــ ٣٠٠ ألف شهيد قتلوا خلال تلك الفترة ــ ٦٠٠ ألف معاق ــ ٣٠٠ ألف فى السجون ــ ٧٠٪ من العمران فى سوريا تم تدميره ــ من بين ما دمر ٤٠٠٠ مدرسة و٣ ملايين بيت إضافة إلى ٢٠٠٠ مسجد و٤٠ كنيسة ــ ٢٠٠ أسرة تغادر دمشق يوميا بسبب سياسة التطهير العرقى التى تستهدف إخلاء المدينة من أهل السنة الذين يمثلون ٨٠٪ من السوريين (العلويون ٩٪ والمسيحيون ٥٪ والباقون يتوزعون على أقليات أخرى الدروز على رأسهم).

(٢)
هذا الكم الهائل من الجثث والأشلاء والأحزان التى تعوم فى بحر من الدماء. وذلك الخراب الذى عم البلاد من أقصاها إلى أقصاها يجرى التستر عليه بهالة من الادعاءات وأوهام الثبات والقوة. وهى الدعاوى التى يراد لها أن تقنع العالم الخارجى بأن النظام القائم هو قدر سوريا المكتوب، وأن شعار «الأسد إلى الأبد» لايزال يمثل القاعدة المهيمنة التى لم تتزحزح، ومنذ لاح تنظيم داعش فى الأفق فإن النظام تلقف الهدية ووظفها لخدمة استمراره، ومن ثم أعاد فى ظلها صياغة المشهد لطمس الحقيقة وإنكار فكرة ثورة الشعب ضد استبداده، وهو ما سوغ إطلاق فكرة الحرب ضد الإرهاب التى كان لها رنينها والاحتفاء بها فى بعض الدوائر العربية والدولية.

على الأرض كان الموقف مختلفا. ذلك أن النظام أوقف عملياته الهجومية على الأرض، واكتفى بقصف معارضيه بالبراميل المتفجرة. 
كما أنه أصيب بانتكاسات عسكرية كبيرة، حيث فقد السيطرة على بعض جبهات الشمال، بعد خسارته لكل محافظة أدلب تقريبا، وهو ما حدث فى الشرق (تدمر) وبدرجة أو أخرى فى الجنوب (درعا). كما تحدث الرئيس السورى علانية عن صعوبة الموقف العسكرى واضطرار قواته إلى التراجع من بعض المناطق. وفى هذه الأجواء تواتر الحديث عن تقسيم سوريا، وإقامة دولة علوية فى منطقة الساحل تضم بعض الأقليات (المسيحيون والدروز مثلا). ولم يكن الوضع الاقتصادى أفضل كثيرا من الوضع العسكرى، إذ أدت ظروف الحرب واستيلاء داعش وتنظيم الدولة الإسلامية التابع لها على بعض مصادر الطاقة إلى تدهور الوضع الاقتصادى. ولولا الدعم المالى الذى تقدمه إيران وروسيا للنظام القائم، وهما المصدران الأساسيان للدعم العسكرى، لانهار النظام وسقط منذ ثلاث سنوات.

ثمة تحليلات تحدثت عن احتفاظ النظام السورى بالسيطرة على المراكز الإدارية للمحافظات، التى يستخدمها لدعم ادعائه بأنه يمثل كل سوريا. ولا يقل أهمية عن ذلك أيضا أن هذه المراكز هى وسيلة النظام الرئيسية للسيطرة على السكان، بما فى ذلك مناطق المعارضة، الذين يعتمدون على الحكومة فى توفير الخدمات ومختلف الوثائق الرسمية اللازمة (يزيد صايغ ــ الحياة اللندنية ١٧/٩).
ورغم أن الساحة السورية باتت تعج فى الوقت الراهن بالفصائل المقاتلة، المعارضة للحكومة والمؤيدة لها، ورغم الاعتماد السورى الكبير على الدعم الإيرانى، إلا أن المتغير الأهم فى الساحة يمثله فى الوجود العسكرى الروسى الذى تجاوز الإمداد بالسلاح إلى إرسال القوات وحاملات الطائرات، الأمر الذى يعد منعطفا جديدا للأزمة السورية من شأنه أن يغير من موازين القوة واستراتيجية المواجهة وتداعياتها.

(٣)
إلى عهد قريب كانت إيران تقوم بالدور العسكرى المباشر فى سوريا، من خلال خبراء وعناصر الحرس الثورى وحزب الله، وكان الدور الروسى مقصورا على الإمداد بالسلاح والدعم السياسى فى مجلس الأمن. إلا أن التصعيد الأخير الذى تمثل فى إرسال القوات جنبا إلى جنب مع البوارج وحاملات الطائرات، والانتشار فى القاعدة البحرية فى طرطوس ومطار اللاذقية وبالقرب من حماة بدا تطورا مثيرا يصب فى مصلحة إطالة عمر النظام، ويثير العديد من التساؤلات حول دوافعه. فى هذا الصدد تراوحت التحليلات بين سعى الرئيس الروسى إلى تحدى المحاولات الغربية لإضعاف بلاده، وبين حرصه على التأكيد على أن روسيا ليست مجرد قوة إقليمية فى شرق أوروبا ولكنها لاعب عالمى مؤثر وطرف لا يمكن تجاهله فى تقرير مصير الشرق الأوسط. وإلى جانب الطموح التقليدى الروسى الذى يحرص على الوصول إلى المياه الدافئة (البحر الأبيض فى هذه الحالة)، لا ينسى أن سوريا تعد المعقل الأخير لروسيا فى الشرق الأوسط الذى تسعى للاحتفاظ به. إلى جانب ذلك فإن الوجود فى سوريا يبعث بإشارة تذكير إلى بغداد التى تعول على الولايات المتحدة فى مشتريات سلاحها. فضلا عن أن إسهام الرئيس بوتين فى الحرب ضد الإرهاب الذى تمثله داعش فى سوريا له دوافعه الخاصة، لأنه يواجه مشكلات مع الجماعات الإسلامية داخل الاتحاد الروسى ومن حوله. وهى الجماعات التى يقمعها نظامه، ويصنفها الإعلام الروسى فى خانة الإرهاب.

وإذ لا يتوقع أحد أن تتم تلك الخطوة بعيدا عن التفاهم مع إيران والتنسيق معها، فإن الحضور العسكرى الروسى فى سوريا من شأنه أن يعزز الموقف الإيرانى ليس فى سوريا فقط، ولكن فى لبنان والعراق أيضا بل وفى غير ذلك من الملفات العالقة فى الشرق الأوسط.
مع ذلك فإن ذلك الحضور الروسى لا يخلو من مغامرة. ذلك أنه قد يفتح الباب لأفغنة سوريا، بمعنى استحضار المشهد الأفغانى فى الحالة السورية، ومن المفارقات التى تذكر فى هذا الصدد أن المجاهدين فى أفغانستان استطاعوا فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى أن يقلصوا السيطرة السوفياتى فى بلادهم بحيث لم تتجاوز ٢٠٪ من الأراضى الأفغانية، وفى الوقت الراهن حين بدأت طلائع مشاة البحرية الروسية وخبراء الدفاع الجوى فى الوصول إلى الساحل السورى، فإن المساحة التى يسيطر عليها نظام الرئيس الأسد فعليا لم تعد تتجاوز ٢٠٪ أيضا.

السؤال المطروح الآن كالتالى: بعدما عزز الروس وجودهم العسكرى فى سوريا، هل ستحاول الدول الغربية أو العربية الداعمة لفصائل المقاومة السورية تعزيز قدراتها لتمكنها من مواجهة ذلك التطور، هذا السؤال تردد فى بعض الكتابات، متضمنا إشارات إلى احتمال تزويد المعارضة بصواريخ جو أو مضادات أرضية. وإذا ما حدث ذلك فإنه يعنى استدراج روسيا إلى المستنقع السورى، والتورط فى مواجهة تكرار التجربة السوفييتية الأليمة فى أفغانستان. 

(٤)
الشعار المرفوع هذه الأيام هو «داعش أولا». صحيح أن الدوافع والحسابات اختلفت لدى كل طرف، لكن النتيجة تظل واحدة، فالروس لهم دوافعهم التى تختلف عن الأمريكان، والدول العربية المشتبكة مع الإسلام السياسى تختلف فى دوافعها عن الإسرائيليين. بل إن دوافع الإيرانيين ليست ذاتها دوافع النظام القائم فى دمشق، حتى دوافع الداعين إلى إسقاط الأسد ونظامه، الأتراك والسعوديون مثلا، يختلفون فى مقاصدهم.
إزاء ذلك فلعلى لا أبالغ إذا قلت إن الفائز الأول فى المشهد حتى الآن هو نظام الرئيس بشار الأسد، رغم تهالكه، حيث لم يعد يعنيه سوى الاستمرار بأى ثمن. أما الخاسر الأكبر فهو الشعب السورى الذى سيطول انتظاره وستستمر عذاباته ما لم تحدث مفاجأة أو معجزة لم تكن فى الحسبان. وإزاء انسداد الأفق على ذلك النحو يظل هتاف السوريين «ما إلنا غيرك يا الله» هو الخيار الوحيد الباقى.


ثمة مداولات حاصلة الآن حول الملف السورى فى نيويورك، بمناسبة انعقاد دورة الأمم المتحدة، وفى حدود ما هو معلن حتى الآن فإن محورها يدور حول مصير الأسد ونظامه وكيفية القضاء على إرهاب داعش وأخواتها. لكن مصير الشعب السورى ظل خارج المناقشة وغير مدرج على جدول الأعمال، وهو ما يمثل تحديا واختبارا صعبا لفصائل المقاومة التى باتت بحاجة لأن تعيد النظر فى استراتيجيتها وأساليبها، حيث أزعم أن ضعف المقاومة السورية كان ولايزال أحد الأسباب التى أسهمت فى تقوية مركز النظام القائم فى دمشق.

فى رأى الأستاذ هيثم المالح أحد شيوخ المحامين السوريين ومسئول اللجنة القانونية لمكتب الائتلاف الوطنى بالقاهرة أن المقاومة تتقدم على الأرض ولكن النظام يسيطر بطائراته على الفضاء، ولذلك فإن التكلفة البشرية عالية فى الصراع الحاصل، وهو يعتبر أن النظام سقط بالفعل وليس فيه شىء مؤهل للبقاء، ولولا الدعم الخارجى لاختفى منذ زمن. وحين سألته عن آفاق وفرص الحل السياسى فكان رده أن ذلك الحل لم يعد واردا إلا فى أجندات القوى الخارجية، ولكن لا محل له على أجندة الشعب السورى، الذى يعتبر أن نضاله وصموده طوال السنوات الأربع الماضية فضلا عن الثمن الباهظ الذى دفعه، ذلك كله يوفر مسوغا كافيا لإغلاق باب الحديث عن أى حل سياسى مع النظام. فى هذه الحالة فإن السؤال الكبير الذى يطرح نفسه هو: ماهى حدود قدرة الشعب السورى على الصبر والاحتمال أكثر من ذلك؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عذابات السوريين بين التسويف والنسيان عذابات السوريين بين التسويف والنسيان



GMT 08:48 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

بيت من زجاج

GMT 08:46 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

إدارة ترامب والبعد الصيني – الإيراني لحرب أوكرانيا...

GMT 08:45 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب ومشروع تغيير المنطقة

GMT 08:44 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا جرى في «المدينة على الجبل»؟

GMT 08:34 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

طبيبة في عيادة «الترند»!

GMT 08:33 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

الشعوذة الصحافية

GMT 08:32 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ولاية ترمب الثانية: التحديات القادمة

GMT 08:31 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

من الرياض... التزامات السلام المشروط

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 11:43 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تامر حسني يدعو لتبني طفل عبقري

GMT 14:33 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة رانيا العبدالله تستمتع بوقتها مع حفيدتها

GMT 07:55 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتقاضى 634 ألف دولار يومياً مع النصر السعودي

GMT 09:37 2024 الخميس ,10 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار السيارات الكهربائية في طريقها لتراجع كبير

GMT 01:56 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

التعليم.. والسيارة ربع النقل!

GMT 05:08 2024 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

مرشح رئاسي معتدل ينتقد سياسة الحجاب في إيران

GMT 05:33 2021 الأحد ,26 كانون الأول / ديسمبر

جالطة سراي يخطر الزمالك بتفعيل بند شراء مصطفى محمد

GMT 03:52 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تدريس الرياضيات يحسّن من مستوى الطلبة؟
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon