حين انتهى الباحث من أطروحته للماجستير وتحدد موعد مناقشة الرسالة، رشح للمناقشة أحد المراجع المختصين بالشأن الإسلامى لكن المسئول الجامعى الكبير اعترض على الاسم وشطبه من القائمة، حينئذ رشح صاحبنا مرجعا آخر للقيام بالمهمة، لكن الرجل شطبه بدوره. وعندما رشح له اسما ثالثا من أهل الاختصاص فإنه ظل على موقفه الرافض. وعبر عن رأيه قائلا إنه لا يريد ذلك النوع من البشر.
المرفوضون الثلاثة من العلماء المرموقين الذين لم يكونوا من الإخوان يوما ما. لكنهم احتفظوا باستقلالهم طول الوقت، فاختلفوا واتفقوا مع بعض سياساتهم. ولم يصبحوا خصوما لهم، ولا شاركوا فى حملة سبابهم بعدما تغيرت الريح لغير صالحهم. إلا أن استقلالهم لم يشفع لهم، ولا جدارتهم العلمية كانت كافية لاعتمادهم. أما المسئول الجامعى الكبير فإنه يقدم بحسبانه أحد رموز الفكر الليبرالى ودعاة المجتمع المدنى.
القصة ليست حالة فردية ولا استثنائية لكنها تعبير عن ظاهرة عامة فى مصر تتجلى فيها واحدة من أبرز قسمات المشهد السياسى الراهن. ولدى عشرات القصص المماثلة التى تعبر عن نفس الحالة فى العديد من المجالات. وبوسع أى مواطن أن يدرك هذه الحقيقة إذا ما دقق فى مرايا المجتمع ليتأكد بسهولة من أن «ذلك النوع من البشر» قد اختفى تماما من الصورة. لا أتحدث هنا عن موقف السلطة وأجهزتها الرسمية، ذلك أن أغلبيتها الساحقة تصرفت ــ ولا تزال ــ بذات المنطق الذى عبر عنه المسئول الجامعى. فأنشطتها وحلقاتها وبياناتها صارمة فى التزامها بسياسة الإقصاء لذلك النوع من البشر. حتى فى النداءات التى تصدر عن ذلك الفريق من النخبة مطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين، فإنها لا تتحدث عن عموم المظلومين، لكنها تخص بها جماعتهم وتتعمد تجاهل ذات النوع من البشر. وهو ما يثير أسئلة كثيرة تدعو إلى إعادة النظر فى تعريف النخبة وما تمثله ومدى صدقها فى التعبير عن القيم النبيلة التى ما برحت تتحدث عنها.
(٢)
دون الدخول فى جدل تعريف النخبة الذى يجيده أساتذة علم الاجتماع السياسى، فإننا نستطيع أن نقول إن الحديث عنه ينصرف إلى القلة التى تقود الرأى العام وتؤثر فيه، سواء بنفوذها المعرفى أو السياسى، أو بقدراتها الاقتصادية أو من خلال حضورها المشهود فى وسائل الإعلام. بوسعنا أيضا أن نقول بأن دور النخبة المصرية أو تمايزاتها لم تظهر فى ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، بسبب قوة الاجماع الشعبى ووضوح الهدف المتمثل فى إسقاط نظام مبارك أو بسبب ضعف حضورها فى الشارع، لكن بذرة التمايز فى المواقف ظهرت مع طرح فكرة التعديلات الدستورية فى شهر مارس من عام ٢٠١١، التى كانت اجتهادا استهدف ترسيخ قواعد الديمقراطية ووضع دستور جديد بواسطة لجنة تأسيسية منتخبة من مجلسى الشعب والشورى. أثار تشكيل اللجنة التى رأسها المستشار طارق البشرى لغطا من جانب مثقفى التيار العلمانى.
ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن ذلك اللغط كان بمثابة أول شرخ فى محيط نخبة الجماعة الوطنية المصرية بعد الثورة. إلا أن الشرخ اتسع حين أجريت الانتخابات التشريعية فى شهر نوفمبر من العام ذاته (٢٠١١). ذلك أن التنافس الانتخابى جرت صياغته باعتباره صراعا بين التيارين المدنى والدينى. وكان ذلك بمثابة غطاء للتجاذب التقليدى بين التيارين الإسلامى والعلمانى، الذى احتفظ بتلك التسمية حين كان التنافس على الصعيدين الفكرى والسياسى. أما حين تطور الأمر بحيث صار على مشارف الاحتكام إلى الجماهير العريضة من خلال الاستفتاءات والانتخابات، فقد اقتضت الملاءمة استخدام ذلك الغطاء مراعاة لحساسية الجمهور سيئ الظن بمصطلح العلمانية.
التسمية الجديدة أعادت إلى الأذهان فكرة الفسطاطين الشائعة فى أوساط الجماعات السلفية والجهادية، محملة بالإشارات إلى معسكرى الأخيار والأشرار. وحين أطلق المصطلح فى الفضاء السياسى بعد الثورة، فإنه أسس لصياغة العلاقة بحسبانها صراعا بين تيار الأخيار الذى يمثله التيار المدنى ونقيضه المتمثل فى التيار الدينى.
أيا كان تقييمنا للوقائع التى شهدتها تلك المرحلة، وأكثرها لم تسمع فيه سوى وجهة نظر واحدة، فالشاهد أن الشرخ الذى حدث بين التيارين تحول إلى جدار شاهق. الأخطر من ذلك أن التنافس تحول إلى صراع على الوجود. وشكلت تظاهرة ٣٠ يونيو التى خرج فيها جمع غفير من البشر نقطة تحول فيه. إذ احتشد المنسوبون إلى التيار المدنى باختلاف أطيافهم، فى مواجهة مكونات التيار الدينى وفى المقدمة منهم الإخوان بطبيعة الحال. وحين التف الأولون حول القوات المسلحة التى تصدرت المشهد آنذاك مؤيدة بالشرطة، فإن هزيمة الأخيرين أصبحت واجب الوقت.
(٣)
الخروج الذى تم فى ٣٠ يونيو ٢٠١٤ اختلف بصورة جذرية عن خروج الجماهير فى ٢٥ يناير ٢٠١١. ففى يناير خرجت الأمة مجتمعة فى مواجهة نظام مبارك. وفى ٣٠ يونيو قاد تحالف فصائل التيار المدنى مع الجيش والشرطة شريحة عريضة من الجماهير لمواجهة حكم الإخوان وما سمى بالتيار الدينى. وحين تغيرت الخارطة السياسية على ذلك النحو برزت ثلاثة عوامل مهمة فى المشهد. الأول أن الصراع الذى كان فى السابق تنافسا فكريا وسياسيا بين الإسلاميين والعلمانيين أصبح صراعا على السلطة اصطف فيه الأخيرون مع الجيش والشرطة. الثانى أن فصائل التيار المدنى أجلت بصورة تلقائية شعاراتها والقيم التى دافعت عنها طوال السنوات التى خلت لكى تنصرف إلى كسب المواجهة. العامل الثالث إن المواجهة اتخذت طابعا استئصاليا، بمعنى أنها لم تستهدف معاقبة الآخر وهزيمته سياسيا، وإنما سعت إلى إخراجه تماما من المشهد السياسى والشطب عليه وإلغائه بحيث لا تقوم له قائمة بعد ذلك.
التحالف بهذه الصورة بدا مفهوما ومقتضياته لم يكن منها مفر. فالقوى المدنية التى ظلت نخبوية بالأساس ومفتقدة إلى القواعد الجماهيرية عولت على قوة الجيش والشرطة. ولكى يتحقق التلاقى فإنه استلزم تقديم تنازلات من جانب الليبراليين والقوميين واليسار ومن لف لفهم. وجاءت تلك التنازلات على حساب شعارات الديمقراطية والتعددية ومبادئ حقوق الإنسان والمجتمع المدنى والفصل بين السلطات وغير ذلك من مستلزمات الإجماع الوطنى والحكم الرشيد. حدث ذلك باسم «الضرورة» تارة وإعلاء لشعار «لا يعلو صوت فوق صوت المعركة» تارة أخرى.
حين قدمت فصائل التيار المدنى تلك التنازلات طائعة، فإنها من الناحية العملية تخلت بصورة تدريجية وربما دون أن تشعر عن مبادئ ثورة يناير ذاتها، التى اختزلتها شعارات العيش والحرية والكرامة الإنسانية. بل ولم تنتبه إلى أن الآخر المستهدف لم يكن التيار الدينى وحده كما بدا فى ظاهر الأمر، وإنما ثورة يناير والربيع العربى كله. إذ خرجت من مربع التحالف المذكور العديد من السهام الجارحة والمسمومة التى سعت إلى النيل منهما. وتلك صفحة من التاريخ لاتزال بعض وقائعهما محاطة بالغموض، خصوصا فى شقها المتعلق بدور القوى الإقليمية التى دخلت على الخط وعملت على تأجيج الصراع وقلب موازينه.
ثمة استدراك واجب هنا. إذ من الانصاف أن نسجل لبعض النماذج الاستثنائية من عناصر التيار المدنى رفضها الانخراط فى مسار التنازلات المبدئية التى قدمها غيرهم. وكانت المنظمات الحقوقية المستقلة والاشتراكيون الثوريون على رأس هؤلاء ومعهم عدد آخر محدود من المثقفين المحترمين.
(٤)
إذا اتفقنا على أن العبرة بالمآلات، فإن ما ينبغى أن يستوقفنا فى الواقع الراهن على الأقل، ليس من أخطأ أو من أصاب ولا من انتصر أو هزم. إذ إن أكثر ما يهمنا هو ما أفضى إليه كل ذلك. يعيننا على إدراك هذه النقطة نصان أحدهما نشرته صحيفة لوموند الفرنسية لفيلسوف إيطالى. والثانى نشرته صحيفة هاآرتس لكاتب إسرائيلى ما تمنيت أن أستشهد بكلامه، لكننى وجدته مفيدا.
نص الفيلسوف الإيطالى جورجيو اجامبين نشر فى ٢٤/١٢/٢٠١٥ فى أعقاب تمديد الطوارئ فى فرنسا تحسبا للعمليات الإرهابية، وهو بمثابة رسالة اعتراض وتحذير، انطلقت من التأكيد على أن الطوارئ لا تحمى الديمقراطية ولكنها مدخل إلى الاستبداد. استشهد الرجل فى ذلك بالتجربة الأوروبية، التى عرفت الطوارئ والقوانين الاستثنائية فى ظل الحكومات الاشتراكية الديمقراطية التى قامت فى «جمهورية» فايمار الألمانية قبل استيلاء هتلر على السلطة فى عام ١٩٣٣. وكان أول إجراء اتخذه بعد تكليفه بالمستشارية أنه مدد الطوارئ ولم يتراجع عنها طوال سنوات حكمه. وترتب على ذلك أن العمليات البوليسية حلت بصورة تدريجية محل السلطة القضائية، ومن ثم تراجعت دولة الحق أمام دولة الأمن. وهو ما أيده فقهاء القانون النازيون الذين أقاموا علاقة الدولة بالمواطنين على أساس الخوف. وهو ما دعا السلطة فى هذه الحالة إلى الاستمرار فى إنتاج الرعب أو تركه ينتشر بغير معوق. إذ فى ظل الخوف تشيع الحيرة والبلبلة بين الناس ويزاد شعورهم بالحاجة إلى الاحتماء بالسلطة وتبرير ممارساتها. ولكى تفرض دولة الأمن سلطانها على المجتمع فإنها تستمر فى الحديث عن الحرب التى تخوضها ضد أعداء مبهمين (المؤامرة ــ استهداف ــ الإرهاب) وتعتمد فى إشاعة التخويف على بيانات الشرطة وما تبثه وسائل الإعلام، وهى الأجواء التى تسوغ إدامة الاستبداد والانقلاب على الديمقراطية.
النص الثانى نشرته هاآرتس فى ٣٠/٣/٢٠١٦ لكاتب اسمه ب. ميخائيل. ومقالته مكرسة للتنديد بالفاشية التى تنتهجها إسرائيل فى مواجهة الفلسطينيين. إذ يذهب فى ذلك إلى التذكير بأن إقامة الفاشية يقتضى مرور المجتمع بمرحلتين أساسيتين، أولهما نزع الصفة الإنسانية الكاملة عن «الآخر»، وذلك بتحويله إلى حيوان خطر يمشى على قدمين. وقد تم إنجاز تلك المرحلة بنجاح فى إسرائيل، بحيث أصبح الفلسطينى مثل الصراصير الموجودة على الأرض التى يجب الدوس عليها بالأحذية أو إبادتها بأى وسيلة أخرى، بعد مرحلة «الشيطنة» تستكمل الفاشية مقوماتها بالدخول فى مرحلة «الاستباحة». ذلك أن النجاح فى الشيطنة يحلل على الفور الانتقال إلى ممارسة استباحة الآخر إلى أبعد مدى، بسلب كل حقوقه وإهدار دمه ونهب ممتلكاته.
حين يتابع المرء تلك الأفكار يلاحظ أنها تكاد تصنف المرحلة التى تمر بها مصر فى الوقت الراهن مع فارق واحد، هو أن من يطلقها ينطلق من موقع ليبرالى واضح، فى حين أن أغلب الليبراليين واليساريين فى مصر يقفون فى الموقف المعاكس. الأمر الذى ينبهنا إلى أحد جوانب الأزمة المحزنة التى نعانى منها.