فهمي هويدي
شىء مهم أن يقال مسئول أسيئ اختياره، لكن ذلك ليس كافيا، لأن إزالة آثار عدوانه على الموقع الذى شغله تكتسب ذات القدر من الأهمية. أتحدث عن الظلم الذى أشاعه وزير العدل الذى لم تكن تصريحاته الصارمة أسوأ ما صدر عنه. لأن الأسوأ كان إسهامه الكبير فى تشويه سمعة القضاء الذى عرفناه شامخا يوما ما. ثم فقد المصطلح فى عهده رنينه وهيبته، وأصبح يساق للتنذر والسخرية. لا أحمله وحده المسئولية عن انهيار سمعة القضاء فى داخل مصر وخارجها. وتلك قصة طويلة ومحزنة، لكننى لا أستطيع أن أغفل «إسهامه الكبير» فى ذلك.
يحسب على الرجل أنه شق الصف القضائى بحيث استخرج منه أسوأ ما فيه، وشغل نفسه طول الوقت باستخدام المرفق فى المزايدة على قمع الأجهزة الأمنية، وتصفية الحسابات العامة والخاصة. فاستهدف القضاة الذين دافعوا عن استقلال القضاء ووقفوا ضد تزوير الانتخابات، وأقرانهم الذين دافعوا عن الدستور والقانون ووحدة الصف الوطنى. بل إنه استهدف أيضا زملاءه الذين نافسوه هو وجماعته فى انتخابات نادى القضاة، هؤلاء جميعا الذين انتسبوا إلى «القضاء الشامخ» تعرضوا للتنكيل والإهانة واحدا تلو الآخر.
أحدث ضحاياه كان المستشار زكريا عبدالعزيز أحد شيوخ القضاة، الذى انتخبه زملاؤه رئيسا لنادى القضاة مرتين خلال الفترة بين عامى ٢٠٠١ و٢٠٠٥. وله سجله المشهود على الصعيدين القضائى والوطنى. إذ تمت إحالته إلى المعاش قبل أسبوع (فى ٨/٣)، ذلك إن الذين حققوا معه وحاكموه كانوا خصومه فى معارك انتخابات النقابة،وبمقتضى الحكم الذى صدر ضده أصبح محروما من الالتحاق بمهنة المحاماة، وضاعت عليه حقوقه فى صندوق القضاة، وحقه فى التأمين الصحى والقضائى.
كانت تهمة المستشار عبدالعزيز أنه شارك فى ثورة ٢٥ يناير واعتبر ذلك اشتغالا من جانبه بالسياسة بالمخالفة للقانون، كما أنه شارك فى اقتحام مقر جهاز أمن الدولة. والتهمة الثانية نفاها كل الشهود، إذ تبين ان الرجل دعى للذهاب إلى مقر الجهاز الأمنى من جانب عضو بالمجلس العسكرى لكى يهدئ من ثورة وغضب الشباب، ولا علاقة له بأى محاولة لاقتحام المبنى.
أما التهمة الأولى فهى من أغرب ما يمكن أن ينسب إلى قاضٍ وطنى فى ظروف الثورة، لأن الرجل لم يشارك فى الثورة ضمن أى فصيل سياسى ولكنه تواجد فى قلبها مدفوعا بالواجب الوطنى الذى ضمن الملايين التى خرجت آنذاك. ويذكر للقضاء المصرى أنه فى عام ١٩٢١ برأ قاضيا هو سلامة بك ميخائيل حين تم إيقافه عن العمل بسبب التهمة ذاتها، حين حضر وقتذاك حفل تكريم سعد باشا زغلول وأصحابه الذين قادوا ثورة ١٩١٩، كما أنه شارك فى مظاهرة نددت برئيس الحكومة عدلى باشا يكن، وحين برأته محكمة الاستئناف مما نسب إليه فإنها ذكرت أن مشاركاته تمت فى إطار إبداء الرأى الذى هو حق للقاضى كغيره من المتمتعين بالحقوق المدنية، وليس فيما مارسه ما يستوجب إدانته فى الظرف السياسى الاستثنائى الذى مرت به مصر آنذاك (ثورة ١٩١٩ وما بعدها).
الفكرة التى استند إليها قاضى الاسئناف رددها الدكتور عصمت سيف الدولة أحد رموز الحركة الوطنية المصرية، إذ استند فى مرافعته الشهيرة التى وصفت بأنها «دفاع عن الشعب» إلى مرسوم صدر فى فرنسا بعد تحريرها من الاحتلال الألمانى فى الحرب العالمية الثانية، قضى بمشروعية كل الأفعال، التى ارتكبت أثناء مقاومة الاحتلال الألمانى حتى إذا اعتبرت جرائم طبقا للتشريعات التى كانت سارية آنذاك.
ما حدث مع المستشار زكريا عبدالعزيز تكرر مع ٥٦ آخرين من أشرف القضاة وأكثرهم غيرة على الدستور والقانون فى قضية مريبة. إذ جرى التنكيل بهم وإهانتهم بواسطة رجال وزير العدل السابق ،وتم حبس احدهم لمجرد أنه طلب تأجيل الجلسة، كما منع آخرون من إبداء مرافعاتهم، ومنهم من جرى إخراجه بالقوة من القاعة لكى لا يكمل مرافعته. وبعد أشواط عدة ،حجزت قضيتهم للحكم يوم الاثنين المقبل ٢٣/٣. وذلك كله نقطة فى بحر العالم الذى ينبغى أن نتخلص منه يوما ما، وليس من رجاله فحسب.