فهمي هويدي
أشد على يد كل من كتب سطرا أو رفع صوتا رفض به التهجير القسرى واستهجنه. إلا أننى لا أجد تفسيرا مقنعا لسكوت أولئك الوطنيين الشرفاء على تفاقم ظاهرة الاختفاء القسرى. أتحدث عن الأزمة التى حدثت فى قرية كفر درويش بمحافظة المنيا، بعدما تسببت رعونة أحد أبناء القرية من الأقباط المقيمين بالخارج فى إطلاق شرارة فتنة طائفية بالقرية. إذ أساء إلى نبى الإسلام على موقعه الإلكترونى. فأثار ذلك غضب المسلمين على أسرة وأهل صاحبنا هذا. وتطور الغضب إلى اشتباك ومحاولة إحراق بيت أسرته، ولإنقاذ الموقف فإن الجهات المعنية تفاهمت مع ممثلى الطرفين على تهجير ٥ أسر قبطية ضمت ١٨ فردا إلى مكان آمن حتى تهدأ الأمور. وهو ما أحدث صداه السريع فى أوساط الكنيسة والطبقة السياسية ووسائل الإعلام. إذ قوبل الإجراء بهجوم وانتقاد شديدين. فصدرت التعليمات بإعادة المهجرين إلى دورهم مع تحمل الدولة مسئولية تأمينهم. ولم ينته الأمر عند ذلك الحد، لأن الحوار لايزال مستمرا حول كيفية ضمان عدم تكرار الأزمة سواء بمنع احتمال حدوثها، أو تشديد معاقبة المتسببين فيها. وهو أمر محمود لا ريب.
شاءت المقادير أن يثار الموضوع خلال الأيام الأولى من شهر يونيو الحالى، فى الوقت الذى تعالت فيه مؤشراتالاختفاء القسرى. إذ تصادف أن اختفى فى اليوم الأول من الشهر ثلاثة أشخاص فى حى المعادى هم إسراء الطويل وعمر محمد على وصهيب سعد. إذ منذ خرجوا لتناول العشاء فى مساء ذلك اليوم، فإنهم لم يعودوا إلى بيوتهم. كانت إسراء البالغة من العمر ٢٢ عاما تعمل بالتصوير وأصيبت برصاصة أثناء أدائها لعملها فى تغطية إحدى التظاهرات فأقعدتها حتى أصبحت بحاجة إلى رعاية وعون. لذلك فإن اختفاءها مع زملائها أثار قدرا مشهودا من التعاطف والتضامن فى أوساط الحقوقيين والنشطاء. وأطلق هؤلاء حملة لاتزال تتردد أصداؤها فى مواقع التواصل الاجتماعى تكرر السؤال كل يوم: أين إسراء الطويل؟
اختفاء الثلاثة كان حلقة فى مسلسل تتابعت حلقاته فى مصر بشكل مقلق ومثير خلال الشهرين الأخيرين، حتى أن المجلس القومى لحقوق الإنسان تلقى بلاغات باختفاء ١٦٣ شخصا خلال الشهرين الماضيين (أبريل ومايو). كما وجدنا أن موقع «الحرية للجدعان» عمم نص برقية على الانترنت، ودعا ذوى المختطفين إلى إرسالها إلى النائب العام بمجرد وقوع الاختفاء. وطالبت البرقية الأهالى باتخاذ الإجراءات القانونية للتحقيق فى مصير المختطف، قبل تلفيق أى تهمة له.
فهمت من بعض الحقوقيين أن بعض الأسر تتكتم أمر اختطاف أحد أبنائها، وتحجم عن إبلاغهم بذلك حتى لا تتعرض للاضطهاد من جانب الأجهزة الأمنية. فى حين أن آخرين يؤثرون الصمت حفاظا على السمعة وخشية الفضيحة فى محيطهم الاجتماعى. ومما قاله أولئك الحقوقيون أن هناك أناسا مختطفون منذ سنين ولا يعرف أهلوهم ما إذا كانوا أحياء أو أمواتا. إلا أن سيل البلاغات انهمر حين شن النشطاء حملة لإعلان أسماء المعتقلين المجهولين. فى هذا السياق قرأت بيانا على الانترنت لزوجة باسم حنان بدر الدين قالت فيه إن زوجها خالد عز الدين اختفى يوم ٢٧ يوليو عام ٢٠١٣ ولم تره إلى الآن، لكنها تسمع من آخرين تنقله بين عدة سجون. وبعد مضى ٦٨٨ يوما فإنها لا تعرف تهمته أو مصيره.
اللافت للنظر فى هذا الصدد أن الصحف القومية والمستقلة حفلت بالتعليقات التى هاجمت التهجير القسرى. فى حين أن الاختفاء القسرى ظلت أخباره مسكوتا عليها، ويتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعى. حتى بدا كأن المنظمات الحقوقية المستقلة وحدها التى باتت معنية به. (صحيفة ديلى ميل البريطانية تطرقت إلى الموضوع فى عدد ١٠/٦). أما المثقفون والسياسيون الذين يظهرون فى وسائل الإعلام فقد تجاهلوه لحسابات وأسباب سياسية على الأرجح. رغم أن أغلب الذين تم اختطافهم خلال الشهرين الأخيرين لم يكونوا من الإخوان، وكانوا من شباب ثورة يناير ونشطاء حركة ٦ أبريل.
يستغرب المرء ذلك التجاهل الذى يجرح الموقف الأخلاقى والإنسانى للنخبة. ذلك أن التهجير القسرى إذا كان جريمة فالاختفاء القسرى جريمة مضاعفة، على الأقل فإن المهجر يظل فى محيط أسرته وتحت رعاية الدولة أو المجتمع المحيط الذى يؤمنه. فضلا عن أنه يعلم أن هجرته لأجل محدود.
أما فى حالة الاختفاء القسرى فحياة المختطف تظل فى خطر ومصيره مجهول ومعنوياته تصبح فى الحضيض، ناهيك عن تدمير أسرته ومستقبله. من ثم فهو أحوج إلى التضامن الذى يحفظ له الحد الأدنى من الإنسانية الذى يمكن أهله من التعرف على مجرد وجوده على قيد الحياة.
قرأت نصا جيدا حول الموضوع نشره موقع «المصرى اليوم» ــ لم تنشره الجريدة ــ يوم الخميس ١١/٦، تحدث فيه صاحبه الزميل محمد أبوالغيط عن قصة إسراء الطويل وأورد نماذج لحالات أخرى مماثلة، مشيرا إلى أن مجلس حقوق الإنسان (الحكومى) تلقى ٥٥ شكوى من الاختفاء القسرى خلال أيام معدودة. وقد ختمه الكاتب الواعد بقوله إننا وصلنا إلى مرحلة لم نعد نريد فيها تغيير العالم، وتوقفنا عن الحلم بتغيير مصر. فقط نريد أن نحتفظ بأصدقائنا أحياء أولا وخارج السجن لو أمكن ثانيا. ثم أضاف قائلا كنا نحسب أننا وصلنا للقاع حتى انفتح تحتنا لنهوى لقاع أدنى.
لمصلحة من إشاعة هذا الشعور بالإحباط واليأس فى نهاية العام الرئاسى الأول؟ وإذا كان ذلك ما زرعناه خلال تلك الفترة فكيف نتوقع الحصاد فى العام الثانى؟ وهل هذا يخدم الاستقرار والسلم الأهلى أم أنه يغذى العنف ويؤججه؟ وحين تتجاهل عناصر النخبة حوادث الاختفاء القسرى، ألا يشكك ذلك فى نزاهتها ويجرِّح موقفها الأخلاقى ويطعن فى شرعيتها؟