فهمي هويدي
حين يتم إطلاق سراح أى عدد من المظلومين فإن تلك خطوة تستحق الترحيب والتشجيع. وفى هذه الحالة فإن التساؤل عن أسماء بذاتها من الأصدقاء أو من مشاهير المسجونين يعد موقفا غير مبدئى وغير أخلاقى. لذلك فالسؤال الغلط فى هذه الحالة لا يكون لماذا لم تفرجوا عن فلان أو فلانة. فى حين ان ثمة سيلا من الأسئلة الصحيحة ينبغى أن تطرح فى المناسبة، منها مثلا: متى يتم إطلاق سراح بقية المظلومين؟ ولماذا يودع الأبرياء فى السجون أصلا؟ ومتى يوضع حد لاحتجاز مئات أو ألوف الأشخاص لسنة أو سنتين بدعوى الحبس الاحتياطى؟ وما هى المعايير التى يحتكم إليها فى إطلاق سراح أناس والإبقاء على آخرين؟... إلخ.
أتحدث عن ردود الأفعال التى ظهرت فى الفضاء السياسى والإعلامى المصرى حين تم إطلاق سراح ١٦٥ شخصا من المحبوسين خلال الأسبوع الماضى. وهى الخطوة التى استقبلت بدرجة ملحوظة من الفتور، ليس فقط لأن القائمة خلت من الأسماء المشهورة بين المسجونين، ولكن أيضا لأن الآمال كانت معقودة على إطلاق سراح عدة مئات (المجلس القومى لحقوق الإنسان تحدث عن دفعة تضم ٧٠٠ شخص ثم دفعة أخرى من ٦٠٠). فضلا عن أن الرقم الذى شمله العفو بمثابة نقطة فى بحر الأزمة، خصوصا ان تقديرات المنظمات الحقوقية المستقلة تحدثت عن أكثر من ٤٠ ألف سجين سياسى، منهم ١٢ ألفا تحت الحبس الاحتياطى.
كانت التوقعات كبيرة وسقف التمنيات عاليا بصورة نسبية، خصوصا ان الوعد بإطلاق سراح المظلومين المعتقلين تكرر أكثر من مرة على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ شهر يناير الماضى. لذلك أصيب كثيرون بالإحباط حين انخفض السقف، وأسفرت جهود الفحص والمراجعة عن الإفراج عن ١٦٥ شخصا فقط.
ولئن كان الإحباط فى محله، على الأقل بالنسبة للمتفائلين الذين لايزالون يراهنون على أمل انفراج الأزمة، إلا أن هذه لم تكن الملاحظة الوحيدة. ذلك إن بعض الأصوات عبرت عن شعور الإحباط لسبب آخر لا علاقة له بالعدد المتواضع الذى شمله العفو. إذ انتقد هؤلاء قرار العفو لأنه لم يشمل أناسا بذواتهم، ممن ترددت أسماؤهم كثيرا فى وسائل الإعلام حتى صاروا من «نجوم المحبوسين»، أو من الأشخاص الذين ينتمون إلى جماعات سياسية معينة ذات خلفيات مغايرة تجعلها مشتبكة مع بعض ممارسات النظام (قانون التظاهر مثلا) وليس مع النظام ذاته.
لست ضد إطلاق سراح الأخيرين، وإنما أتمنى لهم أن يستردوا حريتهم ويعودوا إلى ذويهم فى أقرب وقت. ليس لأنهم مشهورون أو لأن انتماءاتهم السياسية تشفع لهم، ولكن لأنهم مظلومون، وينبغى أن يرفع ذلك الظلم عنهم دون إبطاء. ورغم تعاطفى مع هؤلاء الأشخاص الذين تتحدث عنهم وسائل الإعلام بين الحين والآخر، إلا أننى لا أخفى تعاطفا أكبر مع المظلومين المجهولين الذين لا يعرفهم أحد، ويتوزعون على سجون مقامة فى أماكن نائية وأخرى مجهولة. ذلك أن الأولين الحاضرين فى وسائل الإعلام لابد أن تكون حالتهم المعنوية أفضل بصورة نسبية، على الأقل لأنهم يجدون أن هناك من يذكرهم ويدافع عن قضيتهم، ويثيرون الضجيج فى وسائل الإعلام إذا مسهم سوء. أما أولئك المجهولون التابعون وراء الشمس فلا أحد يذكرهم أو يعنى بأمرهم باستثناء أهاليهم بطبيعة الحال. من ثم فأملهم ضعيف فى أى انفراج، وهو ما لابد أن يؤثر على تدهور معنوياتهم، ناهيك عن أن بقاءهم فى الظل بعيدا عن الأضواء يطلق أيدى سجانيهم فى التنكيل بهم، وهم مطمئنون إلى أن هؤلاء المجهولين لا صاحب لهم ولا أحد يعنى بأمرهم، وليس ذلك مجرد استنتاج لأننى أتلقى خطابات من أهالى المعتقلين تحاول أن تلفت انتباه الرأى العام ووسائل الإعلام إلى معاناة ابنائهم، ومنهم من ذكر صراحة ان السلطة لا تلتفت إلى الذين لا تذكرهم وسائل الإعلام لأن الضجيج الذى يحدثه مشاهير المسجونين يقلقها ويسبب لها إزعاجا تحرص على تجنبه.
رغم تعدد الزوايا التى يمكن تناول الموضوع منها، إلا أننى معنى فى اللحظة الراهنة بالصدى الذى أحدثه فى بعض دوائر الطبقة السياسية قرار العفو عن العدد الأخير من المسجونين، وهو ما سارعت إلى وصفه فى الأسطر الأولى بأنه غير مبدئى وغير أخلاقى. ذلك ان الذين انتقدوا القرار وتحفظوا عليه لمجرد أنه لم يشمل أصدقاءهم أو جماعتهم كانوا يدافعون عن أشخاص وليس عن قيم. ولم يكن يعنيهم كثيرا ان يعانى الآخرون من الظلم والقهر، لأنهم اعتنوا بإعادة الحرية إلى من يحبون، ولم يكترثوا بمعاناة ومظلومية من يكرهون. ولا استبعد ان يكون فساد الأجواء السياسية قد أقنع هؤلاء بأن لهم مصلحة فى الإبقاء على مظلومية من يكرهون، لأن من شأن ذلك أن يمكنهم من الانفراد بالفضاء السياسى ويحررهم من عبء المنافسة وتكاليفها.
إن نزاهة المناضلين السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان تقاس بمعيار دفاعهم عن كرامة من يكرهون وليس فقط من يحبون. وإذ اجتاز بعض الحقوقيين فى مصر ذلك الاختيار بنجاح، إلا أن عناصر الطبقة السياسية التى تطرقت إلى الموضوع اثبتت انها بحاجة إلى تلقى دروس خصوصية فى قيم المنافسة الشريفة والسلوك السياسى الرشيد.