توقيت القاهرة المحلي 20:55:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

فتش عن السياسة

  مصر اليوم -

فتش عن السياسة

فهمي هويدي

منذ عبر الرئيس عبدالفتاح السيسى عن غضبه لانتقاده فى أحد البرامج التليفزيونية، أصبحت مناقشة أزمة الإعلام عنوانا شبه ثابت فى الصحف المصرية. ورغم أن المناقشة لم تكن جديدة تماما، إلا أن الملف فتح على مصراعيه بعد الإشارة الرئاسية، إذ أدلى كل صاحب رأى بدلوه فيه. فقرأنا عن قصور التشريعات وإعادة هيكلة الإعلام وميثاق الشرف الإعلامى ودور النقابة والمجلس الأعلى للصحافة. وتطرقت المناقشة إلى دخول رجال الأعمال إلى المهمة وتدهور مستوى الإعلاميين...إلخ.

ليس لدى تحفظ على فكرة الأزمة التى يعانى منها الإعلام المصرى. وأزعم أن توصيفها على ذلك النحو مخفف إلى حد كبير، ذلك أنه إلى جانب الانتقادات الكثيرة التى توجه إلى أغلب منابره فى الداخل، فإنه أصبح أكثر ما يسىء إلى مصر فى الخارج. ومن يشارك فى أى أنشطة ثقافية أو غير ثقافية فى أى مكان بالعالم العربى تصدمه الانطباعات التى يسمعها عن أداء وسمعة الإعلام المصرى. ولست أشك فى أننى لست الوحيد الذى يرد على ما يسمعه بأن أغلب ما يقدمه الإعلام لا يعبر عن مصر. وإنما هو كاشف عن أسوأ ما فيها، لكنى كنت أضيف أن الإعلام ليس ظالما فقط لكنه مظوم أيضا. وهذه هى الملاحظة التى دفعتنى إلى التطرق للموضوع.

أكرر أنه ليس لدى اعتراض على ما قيل فى تشخيص الأزمة ولا فى المقترحات التى ذكرت للتعامل معها. إلا أننى أعتبر أن ما لم يقل هو الأهم والأولى بالمناقشة. ولتحرير هذه النقطة فإننى أدعو إلى التمييز بين الأسباب الأساسية والأسباب المهمة، كما أننى أدعو إلى التفرقة بين الأسباب والنتائج، ولإيضاح هذه النقطة فإننى ألفت الانتباه إلى خطورة الدور الذى تقوم به وسائل الإعلام فى العالم المعاصر، باعتبارها أكبر العوامل المؤثرة فى تشكيل الرأى العام. عبر عن ذلك زيجنيو بريجنسكى مستشار الأمن القومى الأمريكى حين قال إن التليفزيون هزم الكنيسة فى الولايات المتحدة، بمعنى أن تأثيره أصبح أكبر وأعمق فى حياة الناس من التعاليم الدينية التى تبثها الكنيسة. وإذا كان يخفف من ذلك فى الدول الديمقراطية أن مجتمعاتها يتوافر لها قدر من الحيوية السياسية والكيانات المؤسسية التى لا تتيح للتليفزيون أن يحتكر توجيه الرأى العام، فإن الأمر مختلف إلى حد كبير فى دول العالم الثالث خصوصا غير الديمقراطية منها. فالبنية المجتمعية فى تلك الدول تتسم بالهشاشة والحياة السياسية تعانى من الفراغ. وفى حالات غير قليلة فإن نسبة الأمية عادة ما تكون مرتفعة، وهى العوامل التى تجعل التليفزيون أهم عنصر تأثير فى المجتمع.

لا ننسى فى هذا الصدد أن الأمريكيين حين قاموا بغزو العراق عام ٢٠٠٣ فإن الوحدات الغازية ضمت إعلاميين إلى جانب المقاتلين، وكانت مهمة الأولين هى تسويق فكرة «تحرير» العراق والخلاص من خطره وشروره لدى الرأى العام الأمريكى. كما لا ننسى أن الإعلام الأمريكى كان له دوره فى التمهيد للغزو من خلال إقناع الأمريكيين بخطورة الرئيس العراقى صدام حسين وحكاية أسلحة الدمار الشامل التى قيل إنه استحوذ عليها. وهو الخداع الذى مورس لتبرير الغزو، واعتذرت عنه بعض الصحف الأمريكية لاحقا، حين تكشفت لها الحقيقة (صحيفة نيويورك تايمز مثلا).

الشاهد أن السياسة فى كل مكان باتت تعول كثيرا على الإعلام فى خطابها وتسويغ ممارساتها. وهذا التعويل صار مضاعفا وأخطر أثرا فى المجتمعات غير الديمقراطية. وفى هذه المجتمعات الأخيرة فإن السلطة باتت تدير المجتمع ــ وتقمعه أحيانا ــ من خلال الأمن والإعلام، ولكل منهما أذرعه ووسائله.

لهذا السبب تحديدا فإننا لا نستطيع فى مصر أن نناقش قضية الإعلام بعيدا عن السياسة التى هى ضمن المصادر الأساسية للأزمة. وهو ما يدفعنى إلى القول بأننا قبل الدخول فى الجوانب الفنية والتنظيمية التى هى مهمة لا ريب ينبغى أن نحرر طبيعة العلاقة بين السياسة والإعلام. أكرر أننى لا أقلل من شأن تلك الجوانب لكننى أزعم أن إسهامها فى الأزمة يأتى فى المرتبة التالية لدور السياسة التى باتت تتعامل مع الإعلام باعتباره أحد منصاتها وأقوى أسلحتها المدنية. وحين قلت إن الإعلام ظالم ومظلوم فقد اعتبرته ظالما لافتقاده إلى العوامل التى ذكرها الزملاء، ثم أنه مظلوم أيضا وأولا لأنه ضحية للسياسة التى تصر على الاستحواذ عليه وتوظيفه لخدمة أغراضها وتصفية حساباتها.

هذا العنصر الأخير على أهميته البالغة لم يأخذ حقه من النقاش. لأن الحديث عن دور السياسة يفتح ملفات عدة حساسة يتعلق بعضها بالاختراقات الأمنية واسعة النطاق (مصطلح الصحفيين الأمنجية بات شائعا فى الوسط الإعلامى) وبعضها يتعلق بالديمقراطية والحرية السياسية التى هى البيئة الوحيدة التى ينتعش فيها الإعلام ويستعيد عافيته التى تمكنه من تصويب نفسه وأداء رسالته الحقيقية.

ثمة ملف آخر مسكوت عليه فى مناقشة الأزمة يتعلق بالدور الذى بات يؤديه المال الخليجى فى الإعلام المصرى، والمشتغلون بالمهنة يعرفون أن ذلك المال أصبح حاضرا بقوة فى الساحة، بحيث أقام مؤسسات ومراكز بحثية وصنع «نجوما» لهم دورهم المشهود فى إفساد المشهد الإعلامى وتدهور خطابه. ولابد أن يثير انتباهنا فى هذا الصدد أن هناك جدلا مستمرا فى مصر حول تمويل منظمات المجتمع المدنى، إلا أن هناك سكوتا مدهشا على تمويل المؤسسات الإعلامية والبحثية.

إننا إذا لم ندرج هذين البندين على رأس قائمة عناوين أزمة الإعلام، فإن أى كلام آخر وأية مناقشة للأزمة ستظل بعيدة عن صلب الموضوع.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فتش عن السياسة فتش عن السياسة



GMT 15:22 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

الفشل الأكبر هو الاستبداد

GMT 15:21 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

حافظ وليس بشار

GMT 15:17 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

سلامة وسوريا... ليت قومي يعلمون

GMT 15:06 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

التسويف المبغوض... والفعل الطيِّب

GMT 15:05 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

نُسخة مَزيدة ومُنَقّحة في دمشق

GMT 15:03 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

الشهية الكولونيالية

GMT 15:01 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

البحث عن الهوية!

GMT 13:05 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

عودة ديليسبس!

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 20:31 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

التعادل السلبى يحسم مباراة تشيلسي وايفرتون

GMT 04:44 2018 الأربعاء ,19 أيلول / سبتمبر

رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان يصل إلى السعودية

GMT 11:41 2018 الثلاثاء ,17 تموز / يوليو

شيرين رضا تكشف سعادتها بنجاح "لدينا أقوال أخرى"

GMT 09:36 2018 الأحد ,01 تموز / يوليو

دراسة تنفي وجود "مهبل طبيعي" لدى النساء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon