فهمي هويدي
أراهن على أن يكون أحد فى بر مصر فهم شيئا من الحاصل فى ملف سد النهضة. ذلك أن المفاوضات حول الموضوع أصبحت شديدة الشبه بالحاصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فالحديث عن التفاهمات يتردد فى وسائل الإعلام والاجتماعات تعقد وتنفض ثم تؤجل، فى حين يستمر تنفيذ المخططات على الأرض دون أى تغيير. أعنى أنهما يشتركان فى فرض سياسة الأمر الواقع، ويعتبران المفاوضات مناورات تستهدف كسب الوقت مع الإبقاء على باب التمنيات والأوهام مفتوحا. والفرق بين الاثنين يتمثل فى المدى الذى تستغرقه تلك المناورات، فإذا كانت إسرائيل مستعدة للاستمرار فى المفاوضات لعشر سنوات أو أكثر، كما قال رئيس حكومتها يوما ما، فإن إثيوبيا تريد كسب الوقت حتى الانتهاء من بناء السد وافتتاحه رسميا فى صيف العام المقبل (٢٠١٧).
حتى بداية الأسبوع الحالى كانت أخبار أزمة سد النهضة لا تخرج عن ثلاثة أمور، الأول أن المفاوضات متعثرة وهناك دائما ذريعة لتأجيلها. الثانى أن وزير الرى المصرى قدم تقريرا إلى الرئيس السيسى حول حصيلة الجولة العاشرة من المفاوضات التى عقدت بالخرطوم. الثالث أن وزير المياه الإثيوبى صرح للإذاعة البريطانية (بى بى سى) بأن البناء لن يتوقف تحت أى ظرف وسيتم افتتاح المشروع فى موعده المقرر.
هذه الأخبار بدت محيرة ومثيرة للقلق. سواء لانها حملت إلينا رسالة التعثر والمراوغة، أو لأنها بدت غامضة ومتكتمة لنتائج اجتماعات الخرطوم الأخيرة بين الوزراء الذين يمثلون الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا). فما حدث فى تلك الاجتماعات وضع بين يدى رئيس الجمهورية. أما الرأى العام الذى سيدفع الأثمان الباهظة التى ستترتب على استكمال المشروع والنقص المتوقع فى حصة مصر من المياه فسيظل خارج الصورة. ومن ثم فإن تخوفات المتشائمين ظلت معلقة فى الفضاء، فلا تأكدت ليستعد الناس لمواجهتها ولا هى زالت بما يعيد إليهم الاطمئنان والهدوء، ومن المفارقات أن يحدث ذلك فى حين يتحدث رئيس الجمهورية عن ضرورة المصارحة، ويبادر هو بنفسه إلى ممارسة تلك المصارحة فى أحاديثه عن الأوضاع الاقتصادية والأعباء التى تتحملها الدولة لدعم السلع وإيصالها إلى الناس.
حتى إذا كانت تلك المصارحات الأخيرة ضرورية للتمهيد لرفع الأسعار امتثالا لشروط صندوق النقد الدولى واجبة التنفيذ قبل منح القروض، فإن أمرا بخطورة الآثار المترتبة على بناء سد النهضة يستوجب إحاطة المجتمع علما بمجرياته، وهذه الإحاطة ليس فقط إعمالا لحق الناس فى المعرفة، ولكن أيضا إشراكا لهم فى حمل المسئولية خصوصا أنهم سيكونون الضحايا فى حال ظهرت الآثار السلبية المترتبة على المشروع.
إزاء ذلك فإنه يصبح مستغربا للغاية ألا يصبح الأمر موضوعا للحوار المجتمعى، وأن يغيب عن مناقشات مجلس النواب والأحزاب والنقابات، فضلا عن الخبراء المعنيين بالأمر. وهؤلاء الأخيرون لهم آراؤهم المتباينة التى تسهم فى البلبلة وإشاعة القلق.
أتصور أن الأمر ليس غائبا عن أجندة الأجهزة المعنية بالأمن القومى. لكن ذلك ليس كافيا. إذ إنه أخطر من أن تنفرد الجهات الأمنية بالتصدى له. وإذ أفهم أن تكون تلك الجهات طرفا فى مناقشة الموضوع والتعامل مع خياراته، فإننى لا أرى مصلحة فى عدم توسيع الدائرة وإضافة خبراء المياه ورجال القانون الدولى إلى قائمة المشاركين فى بحث الملف وتحديد خياراته.
أستغرب أيضا ألا يصبح ترشيد استهلاك المياه مطلبا يدعى إليه الناس ويتشدد فيه القانون، كما أننى لم أفهم لماذا لا توضع تحت أنظار الجميع خبرات الدول الأخرى التى تعانى من الشح فى المياه للإفادة منها والتعامل بمسئولية أكبر مع أسوأ الاحتمالات.
لا أستبعد أن تكون جهات البحث الحالية قد وضعت تقديرات حددت فيها مراتب الخيارات ألف وباء وجيم، وقد يأتى دور ثقافة المجتمع وعوائده ضمن تلك الخيارات، إلا أن الرأى العام فى مصر ينبغى ألا يظل بمعزل عن كل ذلك. على الأقل فيما يتعلق بمسئولية المجتمع ودوره حين يتعين عليه أن يتعامل مع شح المياه. ذلك أننا لا نملك ترف الانتظار حتى يبدأ تخزين المياه ونصدم بالنتائج الكارثية المترتبة عليها، وللعلم فقط فإن المرحلة الأولى لتشغيل السد تستهدف تخزين ٣٠ مليار متر مكعب من المياه. ويترتب على ذلك ان تفقد مصر مليون فدان من الأرض الزراعية، مقابل كل خمسة مليارات (حجم التخزين الفعلى يصل إلى ٧٤ مليار متر مكعب كحد أدنى) على الأقل فذلك ما صرح به الدكتور نصر علام وزير الرى الأسبق. وهو تقدير إذا صح فإنه يطلق صفارات الإنذار ويضىء الأنوار الحمراء بقوة فى الفضاء المصرى كله، لذلك يظل مستغربا ان تغيب القضية عن قائمة تحديات المرحلة المعلنة، فيكون العام السابق على تشغيل السد هو عام «الشباب»، ولا يشار إلى أزمة سد النهضة فى خطاب افتتاح الرئيس السيسى لأول دورة مجلس النواب إذ ليست هناك مصلحة فى تجاهل الرأى العام وتركه نهبا للحيرة والقلق، بحيث يصبح خياره الوحيد أن ينزوى مكتئبا وهو يتمتم بكلمات أغنية نجيب الريحانى وليلى مراد فى فيلم «غزل البنات» التى تقول: حاسس بمصيبة جيالى (قادمة فى الطريق).