فهمي هويدي
القصة بدأت بالسؤال التالى: أيهما أشد خطرا، إرهاب نظام الأسد أم إرهاب جماعة داعش؟ فى الإجابة انقسمت الآراء بين منددين بجرائم النظام السورى الذى قتل نحو ٣٠٠ ألف شخص وشرد ١٢ مليون شخص وأمطر شعبه بالبراميل المتفجرة، وآخرين استدعوا سجل جرائم داعش الذين قطعوا الرءوس وروَعوا الأقليات وعملوا على إعادة التاريخ قرونا إلى الوراء.
السؤال لم يكن مطروحا فى الأروقة السياسية العربية فقط، ولكنه طرح أيضا فى بعض دوائر السياسة الأمريكية، ولم يكن الإسرائيليون بعيدين عنه. وحسب المعلومات المتوفرة فإن الأمريكيين ومعمهم الإسرائيليون أقحموا فى الموضوع ملف البرنامج النووى الإيرانى وتمدد نفوذ نظام طهران إلى المنطقة العربية. وفى مرحلة معينة قرأوا المشهد من هذه الزاوية. لم يكونوا ضد النظام السورى الذى لم يزعج واشنطن كثيرا فى حين أنه أراح إسرائيل كثيرا عندما لم يسمح بإطلاق رصاصة نحوها منذ عام ١٩٦٧ وحتى الوقت الراهن. مع ذلك ظل قلقهم قائما بسبب العلاقات الخاصة بين نظام الأسد وطهران بطموحها النووى فضلا عن السياسى. إلا أن الأمر اختلف بصورة نسبية بعد الاتفاق الذى تم مع الإيرانيين فى منتصف شهر يوليو الماضى، الذى كبل قدرة إيران النووية لمدة ١٥ عاما مقبلة. صحيح أنه لم يبدد القلق لدى الطرفين الأمريكى والإسرائىلى، إلا أنه جمد الخطر عند حده الأدنى. وهو ما رجح كفة انضمام الاثنين إلى الفريق الذى يرى فى داعش الخطر الأكبر. ساعد على ذلك ان واشنطن لها حساباتها الخاصة وثأرها الذى لا ينسى ضد تنظيم القاعدة منذ أحداث سبتمبر ٢٠٠١ الشهيرة، فضلا عن انه أبهج بعض الإسرائيليين ــ إذ أسعدهم أن يصنفوا ضمن المحور العربى المناهض لـ«الإرهاب».
معلوماتى ان الرئيس الأمريكى باراك أوباما طرح السؤال على القادة الخليجيين الذين اجتمع معهم فى كامب ديفيد فى منتصف شهر مايو الماضى، لكنه صاغه على نحو آخر، كانت المقارنة فيه بين الخطر الإيرانى وبين الخطر الذى يمثله تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وبرز فى الحوار رأى اعتبر أن داعش وتطرف الجماعات المنسوبة إلى الإسلام هو الأشد خطرا. وان الخطر الإيرانى أهون وشروره أقل، ومما قيل فى هذا الصدد ان زحف داعش التى احتلت أجزاء من سوريا والعراق يهدد خريطة المنطقة العربية ويدعو لإسقاطها لحساب مشروع «الخلافة» الذى تتبناه.
فى أروقة بعض الحكومات العربية جرى تطوير السؤال ــ إذ لم يعد الكلام مقصورا على داعش ومشروعها. وإنما جرى تعميمه انطلاقا من اعتبار تنظيم الدولة الإسلامية رمزا للإسلام السياسى، ومن ثم وضعت مختلف جماعات ذلك التيار مع داعش فى مربع واحد أصبح الإرهاب عنوانا له. وهو ما قننته بعض الدول الخليجية النشطة فى ذلك المضمار.
لا يستطيع أحد فى هذا المقام أن يتجاهل عبقرية الشر لدى النظام السورى، الذى أسهم فى ايصال الأمر إلى ما وصل إليه من خلال الدور الذى أسهمت به أجهزة مخابراته فى إطلاق مشروع داعش (كما ذكرت صحيفة «الجارديان» البريطانية يوما ما). ذلك أنه نجح فى طرح المعادلة فى سوريا على النحو التالى: إذا كانت للنظام القائم سيئاته فالبديل المطروح بعد النجاحات التى حققتها داعش أصبح اسوأ وأتعس. ليس فقط على النظام ولكن أيضا على المجتمع السورى ذاته. الذى يضم خليطا من الأقليات التى روعتها ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق على الأقل. وهو ما أنسى الجميع أن النظام السورى اعتبر معارضيه «إرهابيين» منذ أن خرجوا قبل ٤ سنوات فى مظاهرات سلمية داعية إلى التغيير وقاومهم النظام بالسلاح والشبيحة قبل أن تظهر الجماعات المتطرفة التى كان له دوره فى إطلاقها.
الجدير بالملاحظة فى هذا الصدد أن المحور الذى بدأ يتشكل للاحتشاد فى مواجهة ما سمى بإرهاب جماعات الإسلام السياسى قادته أطراف عربية قادت الانقلاب على الربيع العربى، وتذرعت بحكاية الإرهاب لإجهاض انتفاضة الشعوب العربية، الأمر الذى يعنى أن معركتها الحقيقية ليست ضد الإسلام السياسى ولكنها بالدرجة الأولى ضد تجليات وإفرازات «الربيع» الذى خشيت تلك الدول من أن تصل رياحه إلى حدودها. ومن القرائن الدالة على ذلك انها وهى ترفع راية الحرب على الإرهاب تمارس قدرا مشهودا من القمع لمعارضيها فى الداخل، الذين لا علاقة لهم بالإسلام السياسى.
كبرت المسألة بمضى الوقت وظهر فى العالم العربى محوران أحدهما يرفع راية الحرب ضد الإرهاب ويجعل منها ستارا للقضاء على ما تبقى من الربيع العربى. أما الثانى فهو يقف معارضا لذلك التوجه لأسباب معقدة بعضها يتعلق برواسب التاريخ والبعض الآخر يتصل بالتنافس على النفوذ. وهناك أطراف أخرى فى ذات الفريق لها حساباتها السياسية المتعلقة بتداعيات الحرب التى يلوح بها الفريق الآخر.
لم تكن هذه نهاية القصة لأن الفريق الأول سعى لحشد القوة العربية لتغطية التدخل العسكرى السافر فى مشروع الإجهاض الجارى تنفيذه. ولأن خطوة من هذا القبيل تتطلب توافقا عربيا، فإن الفريق الثانى سعى إلى تعطيلها عن طريق الامتناع عن تأييدها. وطلب تأجيل البث في مصيرها. وهى النقطة التى وصلنا إليها الآن والتى تبذل جهود حثيثة لحل إشكالاتها.
بقيت عندى ثلاث كلمات، الأولى ان الاختيار بين نظام الأسد وبين داعش. أو بين الاستبداد وبين الإرهاب ينطوى على مغالطة ومنطق فاسد، لأنه بمثابة تخيير لنا بين الكوليرا والطاعون. والصحيح أن الاثنين ينبغى رفضهما معا، وان كنت اعتبر أن داعش تمثل خطرا عارضا ومؤقتا فى حين الاستبداد خطر مقيم وهو مصدر كل بلاء حل بالأمة.
الكلمة الثانية أننى لا أخفى دهشة من هذه الغيرة التى ظهرت الآن داعية لاستنهاض القوة العربية لمحاربة الإرهاب الذى يهدد بعض الأنظمة العربية، فى حين لم نجد لها أثرا فى مواجهة التوحش الإسرائيلى فى فلسطين الذى يسارع الخطر لافتراس بلد عربى بأكمله.
الكلمة الثالثة خلاصتها أننا تجاهلنا طويلا العمل العربى المشترك، وانتقلنا الآن إلى محاولة تلويثه وابتذاله، بجعله غطاء لإجهاض تطلعات الشعوب العربية واستخدامه قناعا لتنفيذ بعض المغامرات فى الإقليم. وتلك خطيئة كبرى لن يغفرها التاريخ للضالعين فيها أو الساكتين عليها، حيث لم يخطر على بال أحد أن يوظف العمل المشترك لإجهاض أحلام الشعوب العربية وتطلعاتها.