توقيت القاهرة المحلي 18:32:28 آخر تحديث
  مصر اليوم -

فى اللعب مع الحكومة

  مصر اليوم -

فى اللعب مع الحكومة

فهمي هويدي

القصة بسيطة ولكنها عميقة الدلالة. بعد لأْى سمح لوفد يمثل المجلس القومى لحقوق الإنسان بزيارة سجن العقرب سيئ السمعة. وحين ذهب الوفد سمح لأعضائه بالدخول باستثناء واحدة هى المحامية راجية عمران.

وكانت الحجة أن اسمها لم يدرج ضمن قائمة الأعضاء الذين صرح لهم بالزيارة. أجريت اتصالات استغرقت عدة ساعات، حتى ظهر الثلاثاء ٥/١ لكنها فشلت فى حل الإشكال وتمكين الأستاذة راجية من الانضمام إلى زملائها الذين سبقوها إلى الدخول. وكانت نصيحة رئيس المجلس وأمينه العام أنه لا بأس من استثنائها، لأن الأهم أن تتم الزيارة بمن دخل. بدا الموقف مهينا للمجلس لأنه يفترض أنه هو الذى يحدد من يمثله وليس الداخلية فضلا عن أن ما جرى يعنى أن وزارة الداخلية تسمح لبعض أعضائه بالإطلاع على أوضاع السجن لأنها تطمئن إليهم، ولا تسمح للبعض الآخر لأنها لا تريد لهم أن يطلعوا على الحاصل فى السجن. بكلام آخر فإن الداخلية ترحب بالذين هم على استعداد «للتجاوب» والتعاون معها، وتدرج غير المتعاونين فى خانة غير المرحب بهم.

ما حدث مع الأستاذة راجية عمران ليس مفاجئا تماما، ولكنه تطبيق عملى لعرف سائد فى تقاليد الأجهزة البيروقراطية والأمنية فى مصر، بمقتضى ذلك العرف فإن المسئول أيا كان مقامه ورتبته إذا أراد أن يظل مشمولا بالرضا ويستمر فى موقعه فيتعين عليه أن يكون جزءا من المنظومة أو اللعبة. لا يشفع له أن يكون ملتزما بالقانون أو محتميا بنصوص الدستور، وإنما الأهم أن يكون «مرنا» و«متجاوبا» مع أهواء السلطة ومزاجها. إن شئت فقل إن الموظف المثالى ليس هو الكفء فى عمله وصاحب الشخصية الملتزمة والمستقلة. لكنه ذلك الذى يجيد الميل مع الريح والذوبان فى السلطة. أو عند الحد الأدنى هو ذلك الذى يحرص على إرضائها وينأى بنفسه عما يعكر مزاجها أو يتقاطع مع رغباتها.

مشكلة راجية عمران أنها أرادت أن تكون مستقلة ورفضت أن تصبح جزءا من اللعبة، ورغم أنها لا تنتمى إلى أى فصيل سياسى معارض وليس لها أية انتماءات غير مرضى عنها، (لولا أنها كذلك لما عينت فى المجلس القومى) إلا أنها حين أرادت أن تؤدى دورها كعضو فى مجلس حقوقى بشكل جاد وبغير مساومة أو «مرونة»، فإنها أدرجت ضمن قوائم غير «المتعاونين» وغير المرضى عنهم.

هذا الذى حدث مع المحامية راجية عمران يتكرر مع أى مسئول يريد أن يحتفظ بذاته المستقلة ويؤدى عمله بشكل جاد رافضا الميل مع الهوى والاشتراك فى اللعبة. وهو ما يفسر الحملة التى يتعرض لها المستشار هشام جنينة رئيس جهاز المحاسبات، الذى أخذ المسئولية على محمل الجد واحتمى بالقانون فى أدائه لواجبه ولم يجامل المراتب العليا والمؤسسات الحساسة. ولأنه اختار ألا يراعى المقامات ويشارك فى اللعبة رفع عنه الرضا وانهالت عليه السهام من كل صوب.

أعرف كثيرين فى مواقع عدة انحازوا إلى خيار الواجب وتنزهوا عن اللعب مع الأجهزة، ودفعوا ثمن استقلالهم. منهم من انسحب أو تنحى عن موقعه واتهم فى ولائه لعزوفه عن اللعب (الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء الأسبق مثلا) ومنهم من جمِّد فى وظيفته وطلب منه أن يجلس جانبا فى مقاعد «البدلاء» كما يقولون عن لاعبى كرة القدم. وهو ما تعرض له عدد غير قليل من الدبلوماسيين والسفراء فى الخارجية (يقال إن عددهم أربعين شخصا)، وهناك آخرون لا أستطيع أن أشير إلى أسمائهم أو صفاتهم. وهؤلاء جميعا ليسوا معارضين، بل كانوا موالين، لكنهم رفضوا أن يكونوا شركاء فى اللعبة الجارية.

وجدت تأصيلا لتلك الفكرة فى كتاب المستشار طارق البشرى «مصر بين العصيان والتفكك». إذ أفرد فيه فصلا تحت عنوان «علم الاستبداد والطغيان»، ذكر فيه أن تطويع وإخضاع الموظفين العاملين بالدولة بدأ منذ بداية تسعينيات القرن الماضى (أثناء حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك)، حيث تتابعت القوانين التى ألغت ذاتية المسئول أو الموظف العام بحيل شتى، وجعلت مصيره معلقا على رضا السلطة بحيث «صار وجوده فى عمله ومكانته الاجتماعية ودخله الذى يعيش منه ويعول من يعول.. ذلك كله أصبح فى يد رجل واحد يجلس على القمة».. بحيث أصبح أشبه بمن توجه فوهة البندقية إلى رأسه على الدوام. حزمة القوانين تلك أضعفت المسئول أو الموظف العام بحيث صار همه ليس أن يتفوق فى مجاله الوظيفى أو المهنى، وإنما الأهم أن يسترضى السلطة طول الوقت لكى يؤمن مستقبله. وهى فلسفة لم يعد المسئول فى ظلها خادما للمجتمع (Civil Servant) كما يصنف فى الدولة الحديثة، ولكنه أصبح خادما للسلطة بأجهزتها البيروقراطية والأمنية. ومن قَبِل ذلك الشرط الضمنى بقى وترقى ومن تمرد عليه وأراد أن يحتفظ باستقلاله وذاتيته فعليه أن يدفع ثمن اختياره. وإقصاؤه وإبقاؤه فى الظل أخف تلك الأثمان، ولا ينبئك مثل خبير.
 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فى اللعب مع الحكومة فى اللعب مع الحكومة



GMT 08:48 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

بيت من زجاج

GMT 08:46 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

إدارة ترامب والبعد الصيني – الإيراني لحرب أوكرانيا...

GMT 08:45 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب ومشروع تغيير المنطقة

GMT 08:44 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا جرى في «المدينة على الجبل»؟

GMT 08:34 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

طبيبة في عيادة «الترند»!

GMT 08:33 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

الشعوذة الصحافية

GMT 08:32 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ولاية ترمب الثانية: التحديات القادمة

GMT 08:31 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

من الرياض... التزامات السلام المشروط

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 11:43 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تامر حسني يدعو لتبني طفل عبقري

GMT 14:33 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة رانيا العبدالله تستمتع بوقتها مع حفيدتها

GMT 07:55 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتقاضى 634 ألف دولار يومياً مع النصر السعودي

GMT 09:37 2024 الخميس ,10 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار السيارات الكهربائية في طريقها لتراجع كبير

GMT 01:56 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

التعليم.. والسيارة ربع النقل!

GMT 05:08 2024 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

مرشح رئاسي معتدل ينتقد سياسة الحجاب في إيران

GMT 05:33 2021 الأحد ,26 كانون الأول / ديسمبر

جالطة سراي يخطر الزمالك بتفعيل بند شراء مصطفى محمد

GMT 03:52 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تدريس الرياضيات يحسّن من مستوى الطلبة؟
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon