يجوز لرئيس الجمهورية إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم. كان هذا نص قرار الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى نشرته الجريدة الرسمية فى ٩/٧/٢٠١٥. لم يكن القانون الذى جاء فى مادة واحدة مفاجئا فقط، ولكنه كان مستغربا فى مضمونه وفى ملابسات إصداره. إذ كيف يخول رئيس الجمهورية سلطة عزل رؤساء الأجهزة التى يفترض ان تتولى مراقبة أجهزة السلطة التنفيذية خصوصا بعد مضى شهرين على دعوته إلى إعلان الحرب على الفساد؟ وكيف تكون مستقلة فى حين ان رئيس الجمهورية يملك سلطة عزل رؤسائها وأعضائها؟ وإذا كان التقليد المتعارف عليه يقضى بأن يتولى رئيس الجمهورية سلطة التشريع إذا ما جدت ظروف طارئة لا تحتمل الانتظار أو التأجيل فى غياب وجود البرلمان فأين هى الضرورة أو العجلة التى استدعت إصدار هذا القانون؟ وكيف غابت تلك الحقيقة عمن أعدوا القانون الذى يعد الحكم ببطلانه أمرا مقطوعا به؟
هذه النقطة تحدث فيها بعض أساتذة القانون، الذين شككوا فى دستوريته، سواء لغياب عنصر الضرورة أو لأن الرئيس لا يملك من الناحية الدستورية سلطة عزل رؤساء الهيئات المذكورة، لان ذلك يهدد استقلالها ويجعل رؤساءها رهائن لرضا السلطة والأجهزة الأمنية، إذ استراحوا إليهم أبقوا عليهم وإذا سخطوا فبوسعهم إقالتهم وإقصاؤهم عن مناصبهم.
كنت أحد المقتنعين بفكرة الضرورة، باعتبارها المسوغ الوحيد الذى يضطر الرئيس إلى استخدام سلطته فى التشريع باعتبار أن ذلك حق استثنائى يمارس فى أضيق الحدود فى حالة غياب البرلمان الذى يمثل السلطة التشريعية إلا أن ذلك الاقتناع السائد فى أوساط المهتمين بالموضوع تبين أنه غير صحيح. إذ اكتشفت اننى كنت واحدا من الذين قرأوا نصوص دستور ٢٠١٤ بعيون الدساتير السابقة. حيث فوجئت بأن صياغة الأخيرة كانت ماكرة بحيث مررت على الجميع ما أعطى الرئيس حق إصدار القوانين فى غير حالة الضرورة، وهو الاكتشاف الذى نبهنى إليه بعض العاملين فى مطبخ التشريع الذين قالوا انه لا وجه للطعن فى القانون من هذه الزاوية.
بسبب المفاجأة فإننى لم أصدق الكلام لأول وهلة، الأمر الذى اضطرهم إلى استدعاء النصوص التى عالجت هذه النقطة فى الدساتير الثلاثة، التى صدرت فى أعوام ١٩٧١ و٢٠١٢ و٢٠١٤، وكانت على النحو التالى:
• المادة ١٤٧ فى دستور ١٩٧١ نصت على أنه إذا صدر فى غيبة مجلس الشعب ما يوجب الإسراع فى اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، جاز لرئيس الجمهورية أن يصدر فى شأنها قرارات تكون لها قوة القانون. ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب خلال خمسة عشر يوما من صدورها.. إلخ.
• المادة ١٣١ فى دستور ٢٠١٢ نصت على أنه: عند غياب المجلسين، إذا طرأ ما يستوجب الإسراع باتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، يجوز لرئيس الجمهورية ان يصدر قرارات لها قوة القانون.. إلخ.
كما لاحظت فإن النصين السابقين تضمن كل منهما حكما واحدا ربط بين غياب المجلس أو المجلسين وبين حالة الضرورة المتمثلة فى الظرف الطارئ الذى لا يحتمل التأخير باعتبارهما شرطين لقيام الرئيس بإصدار قرارات لها قوة القانون.
• المادة ١٥٦ تمت صياغتها على نحو مغاير، بحيث تضمنت حكمين وليس حكما واحدا. إذ نصت أولا على أنه إذا حدث فى غير دور انعقاد مجلس النواب ما يوجب الإسراع فى اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير يدعو رئيس الجمهورية المجلس لانعقاد طارئ لعرض الأمر عليه. وقد وضعت نقطة من نهاية هذا الجملة بما يعنى انها عالجت الموقف فى حالة وجود مجلس النواب وحدوث الأمر الطارئ فى غير دور انعقاده. ثم أضاف النص حالة أخرى فى فقرة مستجدة قضت بأنه فى حالة ما «إذا كان مجلس النواب غير قائم (كما هو الحاصل فى مصر الآن) يجوز لرئيس الجمهورية إصدار قرارات بقوانين، على أن يتم عرضها ومناقشتها والموافقة عليها خلال خمسة عشر يوما من انعقاد المجلس الجديد».
حين يدقق المرء فى هذه الصياغة يجد أن حالة الاستعجال أو الضرورة واردة فقط إذا أريد إصدار القانون فى وجود مجلس النواب، وفى هذه الحالة لا يتخذ الرئيس أى إجراء، لكنه يدعو المجلس للانعقاد لمناقشة الموقف فى جلسة طارئة لاتخاذ القرار المناسب. أما إذا كنا بصدد الحالة الثانية التى لا وجود فيها لمجلس النواب فإن رئيس الجمهورية له أن يصدر ما يشاء من قوانين دونما حاجة إلى ضرورة أو ظرف طارئ أو استعجال من أى نوع. من هذه الزاوية فإن القانون الذى صدر بإقالة رؤساء الهيئات المستقلة محصنا ضد الطعن بعدم الدستورية. وان كان ذلك لا يحول دون الطعن فيه لأسباب أخرى إن وجدت.
إذا صحت هذا القراءة فهى تعنى ان ثمة ثغرة لم ننتبه إليها فى صياغة المادة ١٥٦ من دستور ٢٠١٤ فتحت لأول مرة الباب واسعا لإطلاق يد رئيس الجمهورية فى إصدار القوانين وممارسة سلطة التشريع بغير رقيب فى غياب مجلس النواب. وربما فسر ذلك غزارة التشريعات التى أصدرها رئيس الجمهورية فى العام الأخير، قبل الموعد المفترض لانتخابات مجلس النواب فى نهاية العام.
أيا كان القصد من صياغة المادة على ذلك النحو فإنها تظل بحاجة إلى تصويب يسد الثغرة. وفى الوقت ذاته فإنها تنبهنا إلى ضرورة إعادة قراءة نصوص الدستور جيدا للتأكد من انه لا توجد ثغرات أخرى مماثلة وضعت عمدا أو بغير عمد لترجيح كفة السلطة وتقويتها فى مواجهة المجتمع.