فهمي هويدي
أطلقت الهند أرخص هاتف محمول فى العالم، بسعر يقل عن أربعة دولارات (٢٥١ روبية). وقد توصلت إلى إنتاجه إحدى الشركات الخاصة، التى حصلت على دعم هائل من الحكومة. كما ذكرت التقارير الصحفية فى الأسبوع الماضى، واعتبر الخبراء أن هذه الخطوة بمثابة نجاح لحملة «صنع فى الهند» التى تبناها رئيس الوزراء الحالى ناريندرا مودى، التى وضعت ضمن أولوياتها تشجيع الصناعة فى الهند، وقدمت للمصانع كل التسهيلات التى تساعدها على تطوير إنتاجها.
فى تقرير الخبراء أن الهند التى يبلغ عدد سكانها مليارا و٣٠٠ مليون نسمة ستكون أكبر سوق للهواتف الجوالة فى العالم بعد الصين. إذ يصل عدد الذين يستخدمون تلك الهواتف فى الوقت الحاضر حول مليار نسمة، وبطبيعة الحال فإن الرقم مرشح للزيادة بعد نزول الهاتف الجوال الأرخص إلى الأسواق فى الأسابيع القادمة.
الخبر مهم لأنه يمثل إنجازا مثيرا، لكن دلالته أهم، لأن رخص سعر الهاتف الجديد يوفره لشرائح واسعة من الطبقات المتوسطة والفقيرة. ذلك أن سعره يعادل نصف سعر أرخص هاتف جوال يباع فى الأسواق الهندية فى الوقت الراهن.
رغم أن الهاتف الجوال يبدو سلعة كمالية إلى حد ما فى عوالم تلك الطبقات إلا أن ابتكاره يعد حلقة فى سلسلة الجهود التى تبذل لتوفير احتياجاتها بشكل عام. إذ سبقت الإعلان عن إنتاج الهاتف الأرخص، خطوتان غاية فى الأهمية استهدفتا مخاطبة الشرائح ذاتها. الأولى تمثلت فى نجاح المختصين بشركة «تاتا» فى تصميم أرخص سيارة فى العالم «تسع خمسة أشخاص» لا يتجاوز سعر أجود موديلاتها ٢٥٠٠ دولار، وهناك موديلات أخرى تباع بألفى دولار، أما الإنجاز الثانى فيتمثل فى التوصل إلى تصميم المسكن الأرخص فى العالم، الذى قدرت قيمته بما يعادل ٧١٥ دولارا وهو من الخامات المصنعة محليا، ويتم تركيبه فى غضون أسبوع واحد. وعمره الافتراضى فى حدود ٢٠ عاما، وتحدث مسئولو شركة «تاتا» المنتجة فى أن الهند بحاجة إلى ٢٥ مليون منزل حديد وأن مدينة مومباى وحدها تضم ٨ ملايين شخص يسكنون بالإيجار فى مساكن من الصفيح.
أهم ما فى هذه الإنجازات أنها تعكس رؤية استراتيجية تستهدف الطبقات المتوسطة التى تلامس حد الفقر. وهى الطبقات التى تشكل الأغلبية فى المجتمع الهندى الذى لم تلجأ السلطات فيه إلى التنديد بالحجم البشرى الهائل وتحميل المجتمع بالمسئولية عن عجزها فى حل مشاكله، وإنما وظفت طاقاتها لأجل سد احتياجات الجميع. ولم تحل كل تلك المشكلات حقا، لكنها استطاعت أن تحقق له الاكتفاء الذاتى من القمح الذى يعد غذاء رئيسيا، وهى تسعى الآن لتحقيق ذلك الاكتفاء من الأرز.
التجربة الفريدة تقوم على عدة ركائز هى: ١ـ رؤية استراتيجية واضحة مقترنة بإرادة سياسية قوية وثابتة، ٢ــ مساندة وتعاون جاد من القطاع الخاص، ٣ــ التركيز على الطبقات المتوسطة والفقيرة التى هى ملح المجتمع ورافعته الأساسية، ٤ــ توظيف الخامات المحلية فى إطلاق النهضة الصناعية المنشودة.
حين يطالع المرء هذه التجربة فإنه يجد نفسه مدفوعا إلى المقارنة بالحاصل فى مصر، وستحزنه النتيجة لأنه يكاد يخلص إلى غياب تلك الركائز الأربعة، سواء على صعيد وضوح الرؤية أو الدور المسئول للقطاع الخاص أو مخاطبة متوسطى الحال أو حتى استثمار الخامات المحلية فى الصناعة. وسبقنا إلى ذلك عنصر رابع هو أن النظر إلى النهضة فى بلادنا تتجه إلى الخارج وليس إلى الداخل. ذلك أن التمويل الأكبر فى ذلك معلق على الاستثمار الأجنبى من ناحية والاستيراد من ناحية ثانية. الأمر الذى يعنى أن ثمة خللا فى «البوصلة» التى تحتاج إلى تصويت يرد إلى التنمية الذاتية اعتبارها ويوقف الحرب الشرسة المعلنة عليها من جانب عناصر المستوردين والسماسرة.
فى هذا الصدد، فإن المرء لابد أن يستشعر الحزن والخجل حين يجد أن خطوط تجميع السيارة «نصر» المصرية تم افتتاحها فى وادى حوف عام ١٩٦٠، وفى حين يفترض بعد مضى ٥٥ عاما أن تكون صناعة السيارات فى مصر قد بلغت شأوا بعيدا، فإن ما حدث كان العكس تماما، لأننا لم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام فى تلك الصناعة، بل وتراجعنا عن إنتاج السيارة نصر ذاتها! فى الوقت ذاته فإن مطالعة الصحف التى تحفل بصفحات الإعلانات عن المجمعات السكنية والمجتمعات الجديدة تكشف عن أن الطبقات المتوسطة باتت خارج الحسبان، ولا تسأل عن الطبقات الفقيرة، التى تركت للعشوائيات والمقابر. والنموذجان يكفيان فى التدليل على أن ثمة خطأ جسيما فى ثقافة وأساليب النهوض والتقدم ينبغى أن يتم إصلاحه أولا قبل الدخول فى التفاصيل. وما لم نفعل ذلك فإننا سنظل خارج معادلة التقدم.